Arabic    

كتاب منزل في صقلية - الفصل الثالث عشر- عرَّابة الدمى المتحركة


2019-09-30
اعرض في فيس بوك
التصنيف : منزل في صقلية

 
 
بيت في صقلية | تأليف: دافني فيليبس | ترجمة أميمة الزبير | الفصل الثالث عشر- عرَّابة الدمى المتحركة
----
كأطفال نشأنا في إنجلترا، كانت تثير حماستنا جميعاً لوحات الخال العديدة الفاقعة الألوان لمسرح العرائس الصقلّي، بجمهوره المزدحم من الرجال، شيباً وشباباً، حيث لم يبدُ على الإطلاق أنّ ثمة أي نساء. في السنوات الأولى بقصر كوسيني، وحالما اعتدت التعايش مع بعض المشاكل الرئيسية، وتوفر لي بعض وقت الفراغ، قررت محاولة معرفة أين يمكنني مشاهدة أحد العروض. " غير ممكن في تورمينا، لِمَ تريدين رؤيتها؟ لدينا السينما. الأشخاص من الطبقات الدنيا هم فقط مَنْ يستمتعون بهذه العروض." تحفظت، وأخيراً أخبرني بائع التحف باعتقاده أنّهم ربما كانوا يقدمون عروضهم بمدينة كتانيا. هو لا يعلم على وجه التحديد أين، تحت حماية غوغليلمينو، وهو سائق، ربما يمكننا العثور عليه بالقرب من سوق الأسماك، ربما سُرق منا كل شيء، حتى دولاب السيارة. انطلقنا لا نلوي على شيء للعثور على غوغليلمينو. تلقانا بترحاب كبير، وأخذنا إلى منزله الذي كان متواضعاً في أثاثه، وكانت القطعة الوحيدة المثيرة للاهتمام هي آلة تصوير إشعاعية عليها غطاء قماشي، وقدمت لنا زوجته الخبز والجبن والنبيذ. ثم أخذنا إلى المسرح عبر أحد طرق المدينة الخلفية الصغيرة الأخرى.
لم يكن المسرح كبير الحجم، وكان حافلاً بالإثارة والضوضاء والصبية الصغار الذين يمنعهم من الاندفاع للمسرح والتسلل من تحت الستار رجل قاسي الملامح يحمل عصىً غليظة، والذين يقوم بين الفينة والأخرى بإنزال أحدهم بضربة قوية من على مقدمة المسرح الخشبية.
تراجع الصبية على عجل. كانت النساء الوحيدات ضمن الجمهور هن أنا وصديقتاي الاثنتان، بينما كانت هنالك امرأة واحدة خلف الكواليس هي زوجة الدمية التي تحدثت بصوت نسائي. كان هذا العرض مخصّصا للأطفال. وعندما سألت صبياً صغيراً عن السبب في عدم وجود فتيات نظر إلي بكل استعلائه الذكوري، وسألني باستخفاف، " ماذا كنَّ سيفهمن من القصة؟" لم يتفق معي بأنّهن ربما إن وجدن الفرصة...
تقاليد العرائس الصقلية تمتد لتأريخ سحيق ولها جذور في ملاحم اريوستو وتاسو. قبل وصول السينما والتلفاز، كان هنالك مسرحٌ صغيرٌ في معظم القرى، كان يزدحم في المساء بالفلاحين والصيادين. مثل المشاهدين في عهد الملكة اليزابيث، لقد كانوا يطلقون صيحات الاستهجان، أو السرور، ويشاركون بدور فعال في الصراع الأبدي بين المسيحية والوثنية. كان من قبلهم الفرسان، الذين جاءوا من جميع أنحاء أوروبا للحرب تحت قيادة الشارلمان ضد الأخطار القادمة من الشرق، والتي تضمنت- بشكل يثير الفضول والاهتمام- استولفو "الرجل الإنجليزي، الأشد جرأة وحزماً وأول من سقط في معركة ممر الرونسفال". أكان من النورمان؟ لقد كان هناك الفرنسيان أورلاندو، وأوليفرو (رولاند وأوليفر)، وأبطالٌ من الدنمارك، وأسبانيا، وألمانيا، وغيرها من البلاد. وقد كانت المسرحيات المسلسلة، في عروضها الليلية تتواصل لثلاثين شهراً قبل أن تنتهي.
كانت القصص المتنوعة مزيجًا صقليًا نموذجيًا من الشرف والخيانة، والقسوة والرحمة، والشجاعة والجبن حيث تزول الوثنية على حد السيف.
بدا المسيحيون ككل، أكثر تعطشاً للدماء من أعدائهم بينما كانت كومة القتلى من الوثنيين أكبر دائماً من كومة المسيحيين في مأساة الرونسفال الكبرى الأخيرة ووفاة أورلاندو.
لقد استمتعنا بالعرض كله حتى إننا صممنا على اكتشاف مسرح أقرب إلى تورمنا، وسررنا لرؤية واحد في أحد الشوارع الخلفية الصغيرة في جيارديني، على بعد أربعة كيلومترات فقط، ورأينا ملصقات ملونة بجرأة إعلاناً لوصول عرائس إمليو سوليما الوشيك من من مدينة جيارا. وفي منزل خاص تم استئجاره خصيصاً لهذه المناسبة، وبما أننا اُقتدنا خارج غرف معيشتنا بينما نصب المالك مسرحاً صغيراً ومقاعد خشبية بسيطة، فقد تساءلنا عما إذا كان بوسعنا الحضور. شعر سولما بالإطراء لاهتمام الأجانب، بل كان أشد ترحيباً بنا عندما عرف بأنّ خالي كان – "ذلك الراعي العظيم للفن." أخبرته أنّ فيلسوفاً شهيراً سيجيء معنا: " إذن لا بد أن نصنع له عرشاً." عارضت هذا المنحى لأنّ ضيفي كان رجلاً متواضعاً وربما يفضل الجلوس مع بقية الجمهور.
مرة أخرى وجدنا أنفسنا نهتف مع المسيحين ونثور على الوثية، والخونة الأشرار، بوجوههم القميئة، والذين تآمروا مع الأعداء ضد أورلاندوا ومحاربيه.
بعد هذا ذاع صيتي كراعية للفنون، الشيء الذي كان يحرجني بالنظر إلى حالة إفلاسي. في صباح يوم باكر، ظهر على سطح منزلي شخص ذو هيئة غريبة، بربطة على رأسه، وقرط ذهبي طويل يتدلى من أذنه، وهو يلتمس الدعم من أجل مجموعة أخرى. ما أدهشني أنّه قبل اعتذاري ومضى في هدوء. ثم ذاك الرجل من اسيريال الذي تميز هندامه بالرصانة، على بعد أربعين كيلومتر، وكان على يقين من أنني سأساعده. وبالطبع لم أكن أستطيع تقديم المساعدة بالمال لأي شخص، ولم يكن بالتأكيد في مقدوري احتواء أية مجموعة أخرى تحت جناحي الكسير.
بعد سنة أو نحوها، تلقيت خطاباً حزيناً من سوليما، يقول إنّه لا خيار أمامه، فعليه أن يعيش وينفق على زوجته وابنه- لذلك قام ببيع جميع العرائس، والمشاهد، والملصقات إلى بائع تحف. وقال في رسالته" حياة الفنان تبدو غنية في الإعلان فقط، فليس ثمة ما يرضي." وكان يعمل في مصنعٍ لتقطير الكحول، وكان ابنه أوغستو ذو التسع سنوات عازماً على الدراسة ليصبح ميكانيكاً. كان في تلك السنوات محرّك العرائس الوحيد الذي انفطر قلبه لفراق أبطاله ووثنييه الذين اكتسبوا بمرور السنوات قيمة العائلة في قلبه، وكادوا أن يضاهوها حياة. كلما رأيت العرائس معلقة في أحد المتاجر أدرك أنّ وراءها فنانًا وعائلة مفطوري القلب، في حداد على العرائس وهم يجاهدون لقبول حياة تخلو من الرومانسية، في وظيفة رتيبة تأخذهم بعيداً عن المسرح.
كان الجانب الإيجابي لإخفاق سوليما يتمثل في أنّه الآن أقدر على تقديم بعض المساعدة لمسرح اسيريال، الذي كان يتمتع ببعض الأمان بعد أن خصص له مجلس المدنة منحة صغيرة، اعترافاً بقدرته على جذب السيّاح. ذهبت لرؤية إمانويل ماكري هناك. استقبلني بترحاب حميم، وأراني مسرحه في أحد الطرق الخلفية القديمة في تلك المدينة الباروكية الجميلة: "سيدتي، لتصبحي محرّكة عرائس لابد أن تكوني شاعرة، ونحاتة، ورسامة، وحدادة." "وربما ممثلة" قال مستطرداً." كانت الكواليس تتدلى بدون حركة، كالموتى. طابور عريض من الأنصار، والمسلمين، وسيدات البلاد والعمالقة، والتنانين، والزراف، والسحرة والملائكة الحارسة، وبعضها كان يزن حوالي أربعين كيلو، كما أخبرني.
" هل تريدين مني إعادتها للحياة؟" وفي لمح البصر اشتبك الفرسان والكفار والتحما ببعضهما، قُطعت الروؤس، وشُقت الأجساد إلى نصفين- رأسياً وأفقياً. كبرت كومة الموتى، وحدث كل هذا في ضرب موقّع بأقدامه وأقدام ابنه على أرض الجسر الذي عملوا من خلاله على العرائس الثقيلة.
كان المسرح الذي يديره كما هو في عهد أبيه بالتبني. تفاجأت عند سماع التبني، وسألته كيف نفذ من قدر معظم الأطفال الوحيدين، لقد وُضع في ميتم كان تديره الراهبات ثم الكهنة. وكان منقذه هو ماريانو بينيسي، محرّك عرائس مشهور في جميع أنحاء صقلية، وقد وجد الوقت بطريقة ليتحول إلى بطل في قيادة الدراجات. في تلك الأيام كانت قيادة الدراجات رياضة تتابع بشغف كبير في جميع أنحاء إيطاليا. وفي بدايات القرن كان يركب دراجته حول الجزيرة، وعند توقفه في مدينة ميسينا، صادق عائلة ماكري. وفي عام 1906 قبل ولادة إيمانويل، أصبح نداً لهم أو عضواً شرفياً في العائلة بقبوله أن يصبح عرّاباً للطفل. في شهر ديسمبر من عام 1908 دُمرت مدينة ميسينا بهزة أرضية هي أشد ما شهدته أوربا على الإطلاق. قُتل ثمانون ألفاً. استقل ماريانو دارجته في الحال ووصل بطريقة ما إلى منزل أصدقائه ليجده مدمراً بالكامل. وبيديه العاريتين سحب أجساد الوالدين واثنين من الأطفال الأكبر سنا، ولكنه لدهشته وجد أنَّ الطفل إيمانويل ما زال على قيد الحياة، فاستطاع بشكل ما أن يعود به إلى أسيريال. (أحب تخيّل أنَّ خالي ربما ساعدهما إذ شارك لبضع ساعات في أعمال الإنقاذ في في محطة تورمينا، حيث كانت تصل القطارات المحملة بالموتى، والمحتضرين، والجرحى والمواليد الجدد.)
اتخذ محرّك العرائس الطفل ابناً له، ورباه بين العرائس. من الطفولة تعلم العمل عليها وصار يحبها، وحفظ جميع الأساطير عن ظهر قلب. وعندما قال، كان الرجل الشيخ على فراش الموت كان يتحسر على الدوام لحقيقة أنّه ليس ثمة شخص جدير بخلافته في عمله- لم يتحلَّ غيره بتلك المهارات ذاتها. في إحدى الليالي قام يسحِّب نفسه من الفراش سراً، وذهب إلى المسرح ليراقب إيمانويل. أخبرني إيمانويل بكل فخر أنّ الرجل الشيخ عاد إلى فراشه وهو يتمتم " لدي خلف كفؤ" وبعد يوم أو نحو توفي الرجل.
في زيارتي التالية سألني ماكري إن كنت سأشرف عرائسه بأن أكون أمها الروحية؟ فكرت في ما قد يكون من واجباتي الرئيسية، وقلت بعصبية. " أنت تعرف أني لست امرأة ثرية؟"
"سيدتي، أنا لا أطلب منك المال، " قال في نبرة معاتبة كما لو أنه كان أكثر الأشياء في العالم سوءاً وعبثية. "كل ما أطلبه هو اهتمامك."
أثَّر فيَّ هذا الأمر كثيراً، فوعدته بالحصول عليه بقدر ما أستطيع، ثم أصبحت بالتأكيد الشخص الوحيد الذي له ثلاثون أو نحوها من الأبناء الروحيين المسيحيين في العالم، ومثلهم من الوثنيين. ثم قدمهم لي واحداً بعد الآخر.
بعد ذلك بفترة قصيرة أحضر لي البريد بطاقة دعوة صغيرة عليها: إمانويل ماكري، الفنان الشعبي الصقلي، بجانب رسم لجنود يتقاتلون في حماس. على ظهرها كتبت الرسالة التالية:
السيدة العزيزة فيلبس
أتوسل إليك قبول بعض صور المسرح، مع شكري وامتناني، وكذلك عينة من حلوى اسريال.
المسرح الآن في انتظار افتتاحكم كما وعدتم مشكورين.
سوف يكون يوم الجمعة إن رأيتم هو اليوم المفضل بالنسبة لي ولعرائسي. أرجو إخطاري حال قررتم افتتاح المسرح وأيضاً بعدد الأصدقاء الذين سيحضرون معكم.
خادمكم المطيع جداً
إمانويل ماكري
 
كانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها بعرض كهذا!
وضعت إعلاناً في جميع الفنادق، وتمكنت من ملء حافلتين من السياح من مختلف الجنسيات. توقعت احتفالاً بسيطاً. وتفاجأت بشدة لرؤية العمدة، وجميع أعضاء مجلس المدينة حاضرين مع المصورين المحليين الذين لم يتركوني وحدي طوال فترة الظهرة. لقد أعددت خطاباً قصيراً يحتوي على اقتباسات من ماكري وبينيس (كنت قد طولبت مرارًا بالإشارة إليه كمقدم عروض) ثم شخص آخر، باللغة الإنجليزية، أقول فيه شيئاً ما عن التأريخ المأساوي لإيمانويل ورسماً للتأريخ، وحبكة المشهد الذي كنا على وشك مشاهدته.
كانت ستائر المسرح مسدلة، وقد مُدت أمامها شرائط قرمزية وصفراء، ألوان صقلية. انحنى ماكرو على سبيل التحية وسلمني صينية فضية عليها مِقصَّان. قطعتُ الشرائط وارتفعت الستائر على مسرح مزدحم، وفيه شخصية متوجة بروعة لشارلمان (أو كارلمان) يخاطب صفاً من جنوده في دروعهم الذهبية والفضية والسوداء. وفي الخلفية يترصد أكثر الخونة خسة وشراً. وكالمعتاد ابتهج الجمهور بالأداء، وكان ماكري يمثل، كما يبدو من الجانبين، مقلداً أصوات كل شخصية بكل مافي قلبه الصقلي من حماس. قُدمت لي باقة كبيرة من الزهور ودمية صغيرة على هيئة أورلاندو على يد ابنة ماكري الجميلة، وعندما رأيت هذا فعلت شيئاً بالمقابل، لقد أرسل العمدة بسرعة طلباً لصندوق كبير من كعك الجوز الذي اشتهرت به مدينة اسيريال. واعتقد أنّه قد سرّ وربما تفاجأ، إذ أنّه لم ير العرائس منذ أن كان طفلاً- متوقعاً تدفق المال من جذب السياح إلى المدينة المعوزة.
في زيارتي التالية سألت ماكري أين يمكنني شراء نسخة من الكتاب الذي كان يعمل منه، فأخذني إلى مكتبة، وحاول أن يقنعني بشراء كتاب اريستو وتاسو، فرفضت وسألته مرة أخرى عن كتابه، الذي استند عليه في مسرحياته. فهز رأسه في حزن قائلاً: " غير ممكن، فهو غير متوفر، ولدي منه اثنان فقط." " لقد كنت مع صديقة وما زال المال شحيحاً فلم أستطع دعوته إلى الغداء ولكن دعوته إلى احتساء القهوة بعد ذلك. وصل إلى الحانة ومعه طرد سلمه لي. إنّه ما كنت أسأل عنه. بالطبع قلت له أنني لا استطيع قبول تضحيته، وأنّه ضروري للمسرح. ففتحه، وكان قد كتب عليه إهداء: "Alla Signorina Questo mio libro pregiato perche mi e sempre custode gelosa” " (إلى السيدة، هذا هو كتابي الغالي، لأنك ستكونين وصية غيورة على الدوام). لقد طلب مني تهجئة اسمي. كل ما كان يعرفه أنّه لم يكن كتسوني. لقد تهجأته له حرفاً حرفاً. د-ا-ف-ن-ي- ف-ي-ل-ب-س وقام بملء الفراغ بصعوبة. توسل إلي أن أقبله، وافقت على أخذه، فكرت أنّه إن كانت هنالك نسختان فقط منه سيكون من الأفضل أنّهما في مكانين منفصلين تحسباً لحدوث حريق أو أية كارثة أخرى، وطمأنته أنني الوصية الوحيدة وسوف أعيده له إن احتاجه يوماً ما. كان النص باللغة الإيطالية، والتأريخ 1890، ولكن من الواضح أنَّ النقوش الخشبية تعود لوقت سابق، وهي فاتنة في قوة وبساطة.
كانت في داخل الكتاب صورة له كالتلميذ الذي يحب، مع بعض التبرير، ليتصور نفسه وهو يدرس مجلداً ضخماً. على ظهره كتب باللغة الإيطالية: " إلى أكثر الأجنبيات شغفاً[يفترض أنّها أنا]، والتي نقلت عبر شاعر عصر الفرسان [يفترض أنّه هو] على أجنحة الخيال القزحية والشعر الإنساني.." وينتهي بتوقيع فخم ومزخرف. وكان من الصعب معرفة من الذي نقل ماذا، لقد تاه في غمرة هذه اللغة المنمقة. لقد قال مرة بصورة أكثر بساطة:" أعتقد أنني أسعد رجل في العالم بأكمله. فلدي عرائسي بالقرب مني، وعرّابتها أيضاً معي، ولدي زوجتي وعائلتي." ثم أردف مستدركاً، " زوجتي وعائلتي في المقدمة بالطبع." ولكني أخشى أنّ هذا غير صحيح.
وكما يتلاءم مع شخص يعيش في عالم الفرسان، فقد كان ملكياً شغوفاً في تعامله. وكان متى ما قابلني يرفع كأسه قائلاً:" إلى أجمل ملكة في العالم، إليزابيتا." ونادراً ما كنت أنضم إليه. لقد خطط لصنع دمية لكل من الأمير تشارلز والأميرة آن، ولكنه لم يجد الوقت الكافي لفعل ذلك.
تسبب نمط حياة ماكري في الكثير من المشاكل لعائلته، خاصة ابنته الجذابة ذات الأعوام العشرين. لقد خُطبت ثلاث مرات. رأيتها في إحدى المرات تتنهد على لوحة لرجل شاب مفعم بالحياة ويرتدي زي القوات البحرية، كانت ترتدي لؤلؤة كبيرة في بنصرها، ولها درج سفلي في خزانتها يمتليء بالخواتم. تلقيت مؤخراً صورة لها وهي تمسك بيد بطل آخر في زيه الرسمي، ولكن تم فسخ كلا الخطوبتين من قبل والدها: لم يتحلَّ الرجال بما يلزم من "سلوك بطولي". كان الخطيب الثالث أيضاً يرتدي زياً رسمياً، وكان شرطياً، ولكنه يا ويحي أخفق هو الآخر في إرضاء التوقعات الأبوية. آمل أن تكون الفتاة المسكينة قد تزوجت.
كان سلفاتوري، الابن، يسيطر على الأمور بنفسه، فتبع فتاة أمريكية جذابة، كان لوالدها متحف للعرائس من جميع أنحاء العالم. كما أنّه قام باستيراد مجموعة من العرائس الصقلية وبنى مسرحاً خاصاً بها، ويقيم سلفاتوري الآن في نيو إنجلاند.
تغير حظ ماكري عندما عنّ للسفير الإيطالي في بلجيكا، وهو من أبناء مدينة كتانيا، أن ينظم لأحفادي زيارة لبروكسل. وكنت قد تلقيت دعوة لاصطحابهم، ولكني اعتذرت، ربما وجدت الحياة البطولية لأسبوع كامل على درجة لا تحتمل من التوتر.
تلقيت بطاقة بريدية جميلة: " نصر عظيم لشعبنا." بعدها تلقى ماكري، الذي لم يسبق له مغادرة صقلية قبلها، دعوة لزيارة شمال إيطاليا، وبراغ، وباريس، وهلسنكي، ومرة أخرى إلى بروكسل. كان نصراً كبيراً في كل مرة، وكنت متأكدة تماماً من أنّ هذه هي الحقيقة. ولكن طموحه الكبير كان في الذهاب إلى لندن. لقد فعلت ما بوسعي، ولكن ووجهت بمشكلة العثور على مسرح مناسب، كانت المشكلة الأساسية تتمثل في المساحة المطلوبة لتحريك القضبان المعدينة الطويلة.
بعد هذا، تدفقت التكريمات: فمُنح في روما لقب فارس العمل[Cavaliere del Lavoro] ، وجاء لحضور مسرحيته كتاب مشهورون مثل كاسيمودو، الشاعر الصقلي الذي حصل على جائزة نوبل، وجورجيو دي شيريكو الذي كان مسحوراً بتشكيلة الألوان. وضم سجل زوار ماكري اسماء من مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك الصين، واليابان، وروسيا، والأمريكتين. وعندما صارت من عرّابات عرائسه أميرة ودوقة وسفيرة ظل مخلصاً لي، امرأة إنجليزية معدمة بدون لقب. كيف لصقليّ نموذجي أن يكون مخلصاً هكذا؟
لشد ما أحزنني أنّه لم يزر لندن أبداً. لقد توفي فجأة في أواخر الستينات من عمره بعد أمسية حامية الوطيس من معاركه الدامية. سار إلى منزله وهو يتصبب عرقاً دافئاً، وكانت هنالك ريح باردة تهب من ناحية جبل إيتنا المغطى بالثلوج، فتوفي متأثراً بإصابته بذات الجنب بعد أيام قليلة. لكن عرائسه لم تمت. كما أنّ مجلس البلدة أدرك الآن أهمية المال الذي تجلبه، وبدأ في تقديم الدعم للمسرح.

    بيت في صقلية | تأليف: دافني فيليبس | ترجمة أميمة الزبير | الفصل الثالث عشر- عرَّابة الدمى المتحركة ---- كأطفال نشأنا في إنجلترا، كانت تثير حماستنا جميعاً لوحات الخال العديدة الفاقعة الألوان لمسرح العرائس الصقلّي، بجمهوره المزدحم من الرجال، شيباً وشباباً، حيث لم يبدُ على الإطلاق أنّ ثمة أي نساء. في السنوات الأولى بقصر كوسيني، وحالما اعتدت التعايش مع بعض المشاكل الرئيسية، وتوفر لي بعض وقت الفراغ، قررت محاولة معرفة أين يمكنني مشاهدة أحد العروض. " غير ممكن في تورمينا، لِمَ تريدين رؤيتها؟ لدينا السينما. الأشخاص من الطبقات الدنيا هم فقط مَنْ يستمتعون بهذه العروض." تحفظت، وأخيراً أخبرني بائع التحف باعتقاده أنّهم ربما كانوا يقدمون عروضهم بمدينة كتانيا. هو لا يعلم على وجه التحديد أين، تحت حماية غوغليلمينو، وهو سائق، ربما يمكننا العثور عليه بالقرب من سوق الأسماك، ربما سُرق منا كل شيء، حتى دولاب السيارة. انطلقنا لا نلوي على شيء للعثور على غوغليلمينو. تلقانا بترحاب كبير، وأخذنا إلى منزله الذي كان متواضعاً في أثاثه، وكانت القطعة الوحيدة المثيرة للاهتمام هي آلة تصوير إشعاعية عليها غطاء قماشي، وقدمت لنا زوجته الخبز والجبن والنبيذ. ثم أخذنا إلى المسرح عبر أحد طرق المدينة الخلفية الصغيرة الأخرى. لم يكن المسرح كبير الحجم، وكان حافلاً بالإثارة والضوضاء والصبية الصغار الذين يمنعهم من الاندفاع للمسرح والتسلل من تحت الستار رجل قاسي الملامح يحمل عصىً غليظة، والذين يقوم بين الفينة والأخرى بإنزال أحدهم بضربة قوية من على مقدمة المسرح الخشبية. تراجع الصبية على عجل. كانت النساء الوحيدات ضمن الجمهور هن أنا وصديقتاي الاثنتان، بينما كانت هنالك امرأة واحدة خلف الكواليس هي زوجة الدمية التي تحدثت بصوت نسائي. كان هذا العرض مخصّصا للأطفال. وعندما سألت صبياً صغيراً عن السبب في عدم وجود فتيات نظر إلي بكل استعلائه الذكوري، وسألني باستخفاف، " ماذا كنَّ سيفهمن من القصة؟" لم يتفق معي بأنّهن ربما إن وجدن الفرصة... تقاليد العرائس الصقلية تمتد لتأريخ سحيق ولها جذور في ملاحم اريوستو وتاسو. قبل وصول السينما والتلفاز، كان هنالك مسرحٌ صغيرٌ في معظم القرى، كان يزدحم في المساء بالفلاحين والصيادين. مثل المشاهدين في عهد الملكة اليزابيث، لقد كانوا يطلقون صيحات الاستهجان، أو السرور، ويشاركون بدور فعال في الصراع الأبدي بين المسيحية والوثنية. كان من قبلهم الفرسان، الذين جاءوا من جميع أنحاء أوروبا للحرب تحت قيادة الشارلمان ضد الأخطار القادمة من الشرق، والتي تضمنت- بشكل يثير الفضول والاهتمام- استولفو "الرجل الإنجليزي، الأشد جرأة وحزماً وأول من سقط في معركة ممر الرونسفال". أكان من النورمان؟ لقد كان هناك الفرنسيان أورلاندو، وأوليفرو (رولاند وأوليفر)، وأبطالٌ من الدنمارك، وأسبانيا، وألمانيا، وغيرها من البلاد. وقد كانت المسرحيات المسلسلة، في عروضها الليلية تتواصل لثلاثين شهراً قبل أن تنتهي. كانت القصص المتنوعة مزيجًا صقليًا نموذجيًا من الشرف والخيانة، والقسوة والرحمة، والشجاعة والجبن حيث تزول الوثنية على حد السيف. بدا المسيحيون ككل، أكثر تعطشاً للدماء من أعدائهم بينما كانت كومة القتلى من الوثنيين أكبر دائماً من كومة المسيحيين في مأساة الرونسفال الكبرى الأخيرة ووفاة أورلاندو. لقد استمتعنا بالعرض كله حتى إننا صممنا على اكتشاف مسرح أقرب إلى تورمنا، وسررنا لرؤية واحد في أحد الشوارع الخلفية الصغيرة في جيارديني، على بعد أربعة كيلومترات فقط، ورأينا ملصقات ملونة بجرأة إعلاناً لوصول عرائس إمليو سوليما الوشيك من من مدينة جيارا. وفي منزل خاص تم استئجاره خصيصاً لهذه المناسبة، وبما أننا اُقتدنا خارج غرف معيشتنا بينما نصب المالك مسرحاً صغيراً ومقاعد خشبية بسيطة، فقد تساءلنا عما إذا كان بوسعنا الحضور. شعر سولما بالإطراء لاهتمام الأجانب، بل كان أشد ترحيباً بنا عندما عرف بأنّ خالي كان – "ذلك الراعي العظيم للفن." أخبرته أنّ فيلسوفاً شهيراً سيجيء معنا: " إذن لا بد أن نصنع له عرشاً." عارضت هذا المنحى لأنّ ضيفي كان رجلاً متواضعاً وربما يفضل الجلوس مع بقية الجمهور. مرة أخرى وجدنا أنفسنا نهتف مع المسيحين ونثور على الوثية، والخونة الأشرار، بوجوههم القميئة، والذين تآمروا مع الأعداء ضد أورلاندوا ومحاربيه. بعد هذا ذاع صيتي كراعية للفنون، الشيء الذي كان يحرجني بالنظر إلى حالة إفلاسي. في صباح يوم باكر، ظهر على سطح منزلي شخص ذو هيئة غريبة، بربطة على رأسه، وقرط ذهبي طويل يتدلى من أذنه، وهو يلتمس الدعم من أجل مجموعة أخرى. ما أدهشني أنّه قبل اعتذاري ومضى في هدوء. ثم ذاك الرجل من اسيريال الذي تميز هندامه بالرصانة، على بعد أربعين كيلومتر، وكان على يقين من أنني سأساعده. وبالطبع لم أكن أستطيع تقديم المساعدة بالمال لأي شخص، ولم يكن بالتأكيد في مقدوري احتواء أية مجموعة أخرى تحت جناحي الكسير. بعد سنة أو نحوها، تلقيت خطاباً حزيناً من سوليما، يقول إنّه لا خيار أمامه، فعليه أن يعيش وينفق على زوجته وابنه- لذلك قام ببيع جميع العرائس، والمشاهد، والملصقات إلى بائع تحف. وقال في رسالته" حياة الفنان تبدو غنية في الإعلان فقط، فليس ثمة ما يرضي." وكان يعمل في مصنعٍ لتقطير الكحول، وكان ابنه أوغستو ذو التسع سنوات عازماً على الدراسة ليصبح ميكانيكاً. كان في تلك السنوات محرّك العرائس الوحيد الذي انفطر قلبه لفراق أبطاله ووثنييه الذين اكتسبوا بمرور السنوات قيمة العائلة في قلبه، وكادوا أن يضاهوها حياة. كلما رأيت العرائس معلقة في أحد المتاجر أدرك أنّ وراءها فنانًا وعائلة مفطوري القلب، في حداد على العرائس وهم يجاهدون لقبول حياة تخلو من الرومانسية، في وظيفة رتيبة تأخذهم بعيداً عن المسرح. كان الجانب الإيجابي لإخفاق سوليما يتمثل في أنّه الآن أقدر على تقديم بعض المساعدة لمسرح اسيريال، الذي كان يتمتع ببعض الأمان بعد أن خصص له مجلس المدنة منحة صغيرة، اعترافاً بقدرته على جذب السيّاح. ذهبت لرؤية إمانويل ماكري هناك. استقبلني بترحاب حميم، وأراني مسرحه في أحد الطرق الخلفية القديمة في تلك المدينة الباروكية الجميلة: "سيدتي، لتصبحي محرّكة عرائس لابد أن تكوني شاعرة، ونحاتة، ورسامة، وحدادة." "وربما ممثلة" قال مستطرداً." كانت الكواليس تتدلى بدون حركة، كالموتى. طابور عريض من الأنصار، والمسلمين، وسيدات البلاد والعمالقة، والتنانين، والزراف، والسحرة والملائكة الحارسة، وبعضها كان يزن حوالي أربعين كيلو، كما أخبرني. " هل تريدين مني إعادتها للحياة؟" وفي لمح البصر اشتبك الفرسان والكفار والتحما ببعضهما، قُطعت الروؤس، وشُقت الأجساد إلى نصفين- رأسياً وأفقياً. كبرت كومة الموتى، وحدث كل هذا في ضرب موقّع بأقدامه وأقدام ابنه على أرض الجسر الذي عملوا من خلاله على العرائس الثقيلة. كان المسرح الذي يديره كما هو في عهد أبيه بالتبني. تفاجأت عند سماع التبني، وسألته كيف نفذ من قدر معظم الأطفال الوحيدين، لقد وُضع في ميتم كان تديره الراهبات ثم الكهنة. وكان منقذه هو ماريانو بينيسي، محرّك عرائس مشهور في جميع أنحاء صقلية، وقد وجد الوقت بطريقة ليتحول إلى بطل في قيادة الدراجات. في تلك الأيام كانت قيادة الدراجات رياضة تتابع بشغف كبير في جميع أنحاء إيطاليا. وفي بدايات القرن كان يركب دراجته حول الجزيرة، وعند توقفه في مدينة ميسينا، صادق عائلة ماكري. وفي عام 1906 قبل ولادة إيمانويل، أصبح نداً لهم أو عضواً شرفياً في العائلة بقبوله أن يصبح عرّاباً للطفل. في شهر ديسمبر من عام 1908 دُمرت مدينة ميسينا بهزة أرضية هي أشد ما شهدته أوربا على الإطلاق. قُتل ثمانون ألفاً. استقل ماريانو دارجته في الحال ووصل بطريقة ما إلى منزل أصدقائه ليجده مدمراً بالكامل. وبيديه العاريتين سحب أجساد الوالدين واثنين من الأطفال الأكبر سنا، ولكنه لدهشته وجد أنَّ الطفل إيمانويل ما زال على قيد الحياة، فاستطاع بشكل ما أن يعود به إلى أسيريال. (أحب تخيّل أنَّ خالي ربما ساعدهما إذ شارك لبضع ساعات في أعمال الإنقاذ في في محطة تورمينا، حيث كانت تصل القطارات المحملة بالموتى، والمحتضرين، والجرحى والمواليد الجدد.) اتخذ محرّك العرائس الطفل ابناً له، ورباه بين العرائس. من الطفولة تعلم العمل عليها وصار يحبها، وحفظ جميع الأساطير عن ظهر قلب. وعندما قال، كان الرجل الشيخ على فراش الموت كان يتحسر على الدوام لحقيقة أنّه ليس ثمة شخص جدير بخلافته في عمله- لم يتحلَّ غيره بتلك المهارات ذاتها. في إحدى الليالي قام يسحِّب نفسه من الفراش سراً، وذهب إلى المسرح ليراقب إيمانويل. أخبرني إيمانويل بكل فخر أنّ الرجل الشيخ عاد إلى فراشه وهو يتمتم " لدي خلف كفؤ" وبعد يوم أو نحو توفي الرجل. في زيارتي التالية سألني ماكري إن كنت سأشرف عرائسه بأن أكون أمها الروحية؟ فكرت في ما قد يكون من واجباتي الرئيسية، وقلت بعصبية. " أنت تعرف أني لست امرأة ثرية؟" "سيدتي، أنا لا أطلب منك المال، " قال في نبرة معاتبة كما لو أنه كان أكثر الأشياء في العالم سوءاً وعبثية. "كل ما أطلبه هو اهتمامك." أثَّر فيَّ هذا الأمر كثيراً، فوعدته بالحصول عليه بقدر ما أستطيع، ثم أصبحت بالتأكيد الشخص الوحيد الذي له ثلاثون أو نحوها من الأبناء الروحيين المسيحيين في العالم، ومثلهم من الوثنيين. ثم قدمهم لي واحداً بعد الآخر. بعد ذلك بفترة قصيرة أحضر لي البريد بطاقة دعوة صغيرة عليها: إمانويل ماكري، الفنان الشعبي الصقلي، بجانب رسم لجنود يتقاتلون في حماس. على ظهرها كتبت الرسالة التالية: السيدة العزيزة فيلبس أتوسل إليك قبول بعض صور المسرح، مع شكري وامتناني، وكذلك عينة من حلوى اسريال. المسرح الآن في انتظار افتتاحكم كما وعدتم مشكورين. سوف يكون يوم الجمعة إن رأيتم هو اليوم المفضل بالنسبة لي ولعرائسي. أرجو إخطاري حال قررتم افتتاح المسرح وأيضاً بعدد الأصدقاء الذين سيحضرون معكم. خادمكم المطيع جداً إمانويل ماكري   كانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها بعرض كهذا! وضعت إعلاناً في جميع الفنادق، وتمكنت من ملء حافلتين من السياح من مختلف الجنسيات. توقعت احتفالاً بسيطاً. وتفاجأت بشدة لرؤية العمدة، وجميع أعضاء مجلس المدينة حاضرين مع المصورين المحليين الذين لم يتركوني وحدي طوال فترة الظهرة. لقد أعددت خطاباً قصيراً يحتوي على اقتباسات من ماكري وبينيس (كنت قد طولبت مرارًا بالإشارة إليه كمقدم عروض) ثم شخص آخر، باللغة الإنجليزية، أقول فيه شيئاً ما عن التأريخ المأساوي لإيمانويل ورسماً للتأريخ، وحبكة المشهد الذي كنا على وشك مشاهدته. كانت ستائر المسرح مسدلة، وقد مُدت أمامها شرائط قرمزية وصفراء، ألوان صقلية. انحنى ماكرو على سبيل التحية وسلمني صينية فضية عليها مِقصَّان. قطعتُ الشرائط وارتفعت الستائر على مسرح مزدحم، وفيه شخصية متوجة بروعة لشارلمان (أو كارلمان) يخاطب صفاً من جنوده في دروعهم الذهبية والفضية والسوداء. وفي الخلفية يترصد أكثر الخونة خسة وشراً. وكالمعتاد ابتهج الجمهور بالأداء، وكان ماكري يمثل، كما يبدو من الجانبين، مقلداً أصوات كل شخصية بكل مافي قلبه الصقلي من حماس. قُدمت لي باقة كبيرة من الزهور ودمية صغيرة على هيئة أورلاندو على يد ابنة ماكري الجميلة، وعندما رأيت هذا فعلت شيئاً بالمقابل، لقد أرسل العمدة بسرعة طلباً لصندوق كبير من كعك الجوز الذي اشتهرت به مدينة اسيريال. واعتقد أنّه قد سرّ وربما تفاجأ، إذ أنّه لم ير العرائس منذ أن كان طفلاً- متوقعاً تدفق المال من جذب السياح إلى المدينة المعوزة. في زيارتي التالية سألت ماكري أين يمكنني شراء نسخة من الكتاب الذي كان يعمل منه، فأخذني إلى مكتبة، وحاول أن يقنعني بشراء كتاب اريستو وتاسو، فرفضت وسألته مرة أخرى عن كتابه، الذي استند عليه في مسرحياته. فهز رأسه في حزن قائلاً: " غير ممكن، فهو غير متوفر، ولدي منه اثنان فقط." " لقد كنت مع صديقة وما زال المال شحيحاً فلم أستطع دعوته إلى الغداء ولكن دعوته إلى احتساء القهوة بعد ذلك. وصل إلى الحانة ومعه طرد سلمه لي. إنّه ما كنت أسأل عنه. بالطبع قلت له أنني لا استطيع قبول تضحيته، وأنّه ضروري للمسرح. ففتحه، وكان قد كتب عليه إهداء: "Alla Signorina Questo mio libro pregiato perche mi e sempre custode gelosa” " (إلى السيدة، هذا هو كتابي الغالي، لأنك ستكونين وصية غيورة على الدوام). لقد طلب مني تهجئة اسمي. كل ما كان يعرفه أنّه لم يكن كتسوني. لقد تهجأته له حرفاً حرفاً. د-ا-ف-ن-ي- ف-ي-ل-ب-س وقام بملء الفراغ بصعوبة. توسل إلي أن أقبله، وافقت على أخذه، فكرت أنّه إن كانت هنالك نسختان فقط منه سيكون من الأفضل أنّهما في مكانين منفصلين تحسباً لحدوث حريق أو أية كارثة أخرى، وطمأنته أنني الوصية الوحيدة وسوف أعيده له إن احتاجه يوماً ما. كان النص باللغة الإيطالية، والتأريخ 1890، ولكن من الواضح أنَّ النقوش الخشبية تعود لوقت سابق، وهي فاتنة في قوة وبساطة. كانت في داخل الكتاب صورة له كالتلميذ الذي يحب، مع بعض التبرير، ليتصور نفسه وهو يدرس مجلداً ضخماً. على ظهره كتب باللغة الإيطالية: " إلى أكثر الأجنبيات شغفاً[يفترض أنّها أنا]، والتي نقلت عبر شاعر عصر الفرسان [يفترض أنّه هو] على أجنحة الخيال القزحية والشعر الإنساني.." وينتهي بتوقيع فخم ومزخرف. وكان من الصعب معرفة من الذي نقل ماذا، لقد تاه في غمرة هذه اللغة المنمقة. لقد قال مرة بصورة أكثر بساطة:" أعتقد أنني أسعد رجل في العالم بأكمله. فلدي عرائسي بالقرب مني، وعرّابتها أيضاً معي، ولدي زوجتي وعائلتي." ثم أردف مستدركاً، " زوجتي وعائلتي في المقدمة بالطبع." ولكني أخشى أنّ هذا غير صحيح. وكما يتلاءم مع شخص يعيش في عالم الفرسان، فقد كان ملكياً شغوفاً في تعامله. وكان متى ما قابلني يرفع كأسه قائلاً:" إلى أجمل ملكة في العالم، إليزابيتا." ونادراً ما كنت أنضم إليه. لقد خطط لصنع دمية لكل من الأمير تشارلز والأميرة آن، ولكنه لم يجد الوقت الكافي لفعل ذلك. تسبب نمط حياة ماكري في الكثير من المشاكل لعائلته، خاصة ابنته الجذابة ذات الأعوام العشرين. لقد خُطبت ثلاث مرات. رأيتها في إحدى المرات تتنهد على لوحة لرجل شاب مفعم بالحياة ويرتدي زي القوات البحرية، كانت ترتدي لؤلؤة كبيرة في بنصرها، ولها درج سفلي في خزانتها يمتليء بالخواتم. تلقيت مؤخراً صورة لها وهي تمسك بيد بطل آخر في زيه الرسمي، ولكن تم فسخ كلا الخطوبتين من قبل والدها: لم يتحلَّ الرجال بما يلزم من "سلوك بطولي". كان الخطيب الثالث أيضاً يرتدي زياً رسمياً، وكان شرطياً، ولكنه يا ويحي أخفق هو الآخر في إرضاء التوقعات الأبوية. آمل أن تكون الفتاة المسكينة قد تزوجت. كان سلفاتوري، الابن، يسيطر على الأمور بنفسه، فتبع فتاة أمريكية جذابة، كان لوالدها متحف للعرائس من جميع أنحاء العالم. كما أنّه قام باستيراد مجموعة من العرائس الصقلية وبنى مسرحاً خاصاً بها، ويقيم سلفاتوري الآن في نيو إنجلاند. تغير حظ ماكري عندما عنّ للسفير الإيطالي في بلجيكا، وهو من أبناء مدينة كتانيا، أن ينظم لأحفادي زيارة لبروكسل. وكنت قد تلقيت دعوة لاصطحابهم، ولكني اعتذرت، ربما وجدت الحياة البطولية لأسبوع كامل على درجة لا تحتمل من التوتر. تلقيت بطاقة بريدية جميلة: " نصر عظيم لشعبنا." بعدها تلقى ماكري، الذي لم يسبق له مغادرة صقلية قبلها، دعوة لزيارة شمال إيطاليا، وبراغ، وباريس، وهلسنكي، ومرة أخرى إلى بروكسل. كان نصراً كبيراً في كل مرة، وكنت متأكدة تماماً من أنّ هذه هي الحقيقة. ولكن طموحه الكبير كان في الذهاب إلى لندن. لقد فعلت ما بوسعي، ولكن ووجهت بمشكلة العثور على مسرح مناسب، كانت المشكلة الأساسية تتمثل في المساحة المطلوبة لتحريك القضبان المعدينة الطويلة. بعد هذا، تدفقت التكريمات: فمُنح في روما لقب فارس العمل[Cavaliere del Lavoro] ، وجاء لحضور مسرحيته كتاب مشهورون مثل كاسيمودو، الشاعر الصقلي الذي حصل على جائزة نوبل، وجورجيو دي شيريكو الذي كان مسحوراً بتشكيلة الألوان. وضم سجل زوار ماكري اسماء من مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك الصين، واليابان، وروسيا، والأمريكتين. وعندما صارت من عرّابات عرائسه أميرة ودوقة وسفيرة ظل مخلصاً لي، امرأة إنجليزية معدمة بدون لقب. كيف لصقليّ نموذجي أن يكون مخلصاً هكذا؟ لشد ما أحزنني أنّه لم يزر لندن أبداً. لقد توفي فجأة في أواخر الستينات من عمره بعد أمسية حامية الوطيس من معاركه الدامية. سار إلى منزله وهو يتصبب عرقاً دافئاً، وكانت هنالك ريح باردة تهب من ناحية جبل إيتنا المغطى بالثلوج، فتوفي متأثراً بإصابته بذات الجنب بعد أيام قليلة. لكن عرائسه لم تمت. كما أنّ مجلس البلدة أدرك الآن أهمية المال الذي تجلبه، وبدأ في تقديم الدعم للمسرح. , Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,

Related Articles

كتاب منزل في صقلية - الفصل الثالث عشر- عرَّابة الدمى المتحركة
كتاب منزل في صقلية - الفصل الثاني عشر- الآثار
صور توثيقية من كتاب منزل في صقلية
كتاب منزل في صقلية - الفصل الحادي عشر- العمل الاجتماعي في صقلية
كتاب منزل في صقلية - الفصل العاشر- العرّاب
كتاب منزل في صقلية - الفصل التاسع - السيد ديلان توماس
كتاب منزل في صقلية - الفصل الثامن - كونستا


Visa_MasterCard

Privacy Policy   Cookie Policy   Terms and Conditions