كتاب منزل في صقلية - الفصل الحادي عشر- العمل الاجتماعي في صقلية
بيت في صقلية | تأليف: دافني فيليبس | ترجمة: أميمة الزبير
الفصل الحادي عشر- العمل الاجتماعي في صقلية
*****
ملاحظة: يوجد مجموعة جميلة من الصور وردت مع هذا الفصل في الكتاب وضعناها في هذا الرابط لمشاهدتها https://cutt.us/CasaCuseni
فرض علينا ضيق الأحوال أثناء زيارتي الأولى مع إيفا الاقتصاد في الجانب المادي. لم ينطو الأمر على كثير من الصعوبة خاصة بعد سنوات من الحرب والتقشف. كانت بريطانيا ما تزال في قبضة الأخير: حيث ندرت الرفاهية بجميع أنواعها. كان الطعام الصقلي تغييراً شهياً بخبزه الطيب المذاق، والثوم وأسماك السردين الطازجة، وزيت الزيتون والفواكه الحمضية على رأس القائمة الجميلة. إنّه أمر محزن أن نفتقر إلى كل ذلك في الوطن، بيد أننا لما كنا نستطيع الاستمتاع بها حتى إن توفر لدينا المال الكافي لشرائها: لأننا كنا سننعزل عن الأغلبية العظمى من الشعب الصقلي، الذي عانوا أكثر منا بكثير. وكثيراً ماكانوا يفاجأون بنفاذ المؤن بعد ساعات من الوقوف في الصفوف ليحصلوا على حصصهم الضئيلة، فيضطرون للمغادرة وهم صفر اليدين. وهو الأمر الذي يحدث على شكل متكرر يفتقر إلى العدالة بدرجة كبيرة حيث يستطيع الأثرياء والمميزون تحمل كلفة الأكل في المطاعم باهظة الثمن ويحتفظون بما تنتجه أراضيهم. وكنا نتلقى الدعوات في مناسبات قليلة، حيث ننظر في دهشة للحوم الكبيرة الحجم، والأجبان الضخمة، وألواح الزبدة التي يصل وزنها إلى كيلو، والتي لم نر مثلها لسنوات طوال.
في الخارج، في كل الاحتمالات، تلتصق وجوه الأطفال الجوعى والضعفاء هزيلي الأجساد، بزجاج الأبواب ليتم طردهم على عجل، مع القطط والكلاب التي تتضور جوعاً. لم يكن في التجربة متعة ولم نتمنَّ تكرارها.
حالما شعرنا بالاستقرار قليلاً، وتمكنا من السيطرة على المشكلات خارج قصر كوسيني، بدأت اختصاصية الخدمة الاجتماعية داخلي في العمل، وسألت عن دار المسنين الفقراء. قام بتأسيس هذا الملجأ المذكور آنفاً، رجل ألماني اسمه غراندمونت، وبعد وفاته خلفه خالي رئيساً للدار لخمسة وعشرين عاماً، أثناءها توجب العمل على جمع كل نفقاته، إذ لم تخصص الحكومة أي نوع من الرعاية. كانت الإعلانات تعلّق في الفنادق لتوجيه الناس بعدم منح المال للمتسولين- الذين كان يجمع أحدهم من المال في اليوم ما لا يستطيع عامل صادق مجدّ في عمله- وأن يساعدوا الدار بدلاً عن ذلك. استطاع روبرت كونه إنجليزياً أن يضمن النزاهة في إنفاق المال. كما اقتنع أيضاً بتنظيم فعاليات جمع التبرعات، وكان يهتف عند بيع إحدى لوحاته، كما قيل لي، " سوف يجد نزلائي المساكين اليوم طعاماً طيباً!"
منذ سنوات إقامتي الأولى كنت قد سمعت عن الدار، بما فيها من مسنين يقارب عددهم العشرة أشخاص، وراهبات مكرسّات كن يقمن برعايتهم. أصبت بالرعب عندما عرفت بأنّهم الآن يتضورون جوعاً. لم تعد الراهبات هن المسؤولات عن الدار. وبدلاً منهن جاء رجل أعمى وزوجته الغاضبة، وقيل إنّهما كانا يسرقان مافي الدار من طعام على قلته. في الحقيقة بدا الأمر كما لو أنّ أولئك المسنين الإثني، عشر سيطردون إلى الشارع جميعاً بسبب موت رجل إنجليزي واحد. بدا أنَّ معظم الناس كانوا يعتقدون أنَّ فريق كرة القدم أكثر أهمية من هؤلاء المساكين.
لابد من عمل شيء ما. وفي غمرة الإحباط، قصدت توريدو، الذي كان لا يزال يقيم معنا في تلك الأيام.
" الأمر بسيط!" قال بطريقته الميلودرامية، "إنَ من تقاليد هذا المنزل تنظيم مسابقة يانصيب لصالح الدار عندما تستدعي الحاجة ذلك."
"مم؟"
"دائماً لحم الحمل، واثنتين من لوحات خالك. يجب أن تكون التذاكر منخفضة الثمن؛ كان دون روبيرتو يشدد على ذلك، إذ ينبغي أن يكون بوسع الجميع شراء واحدة- لم تكن أبداً تتجاوز مبلغ 15 ليرة."
ولكن كيف نستطيع الحصول على لحم الحمل؟"
" الأمر بسيط: نذهب إلى السوق الشهري على الشاطيء، ونحضر واحداً صغيراً إلى هنا. سوف يزيد وزنه من أكل العشب الموجود في الأعلى، وسوف يكون جائزة كبرى لأي شخص." ابتهج توريدو باضطلاعه بشؤون التنظيم ومهامه- طالما كنت أنا من يدفع.
وسرنا في صبيحة يوم جميل على الطريق الصخري إلى الشاطيء حيث كان يقام معرض تجاري كل شهر. سرعان ما عثرنا على زوجين متقدمين في السن يقودان كبشاً وحملين صغيرين. تم الاتفاق على سعر معين بعد تفاوض، بلغة صقلية صرفة لم أستطع مجاراتها، تخلله الكثير من الصراخ، والتلويح بالأيدي والأذرع. ولذلك اقترحت ألا داعي لأن يضطر الحيوان المسكين إلى قطع كل هذه المسافة إلى الشاطيء بينما سيتعين جره صعوداً إلى أعلى الهضبة مرة أخرى. اعتقد الرجل العجوز أنّها فكرة صائبة، ولكن زوجته، والتي يبدو أنّها هي المديرة، كانت معارضة، وعليه واصلنا جميعاً المسير إلى أسفل التلّة.
بينما كنا ننظر في الجمهور، والمشهد اللطيف حيث المزارعين، والخيول، والخنازير، والخراف، واحسرتاه والطيور المغردة في أقفاصها، كانت عين توريدو لا تكاد تزيغ عن حمله.
سرعان ما رأيناه يقترب من السيدة العجوز في غضب. لقد كانت تجلس وحدها على الرمل وساقاها ممددتان أمامها، على رأسها منديل يقيها حرارة شمس الربيع المشرقة، تقضم قطعة من رغيف، وتتظاهر بأنّ توريدو لا يعنيها على الإطلاق. من الواضح أنّها كانت تصرّ على إحضار الجميع إلى الأسفل لأنّها أرادت الحصول على مشترٍ أكثر سخاءً.
استمرت في المضغ دون هوادة متصنعة الصمم بينما ارتفع صوته أكثر وأكثر، وأصبحت إشاراته أشد حدة. ولكنها نهضت فجأة وأخذت المفكرة التي كان يلوح بها بغضب متزايد، أمام أنفها:" ماريتنو" أصبح من حقنا بالسعر المتفق عليها مسبقاً.
لقد كان حيواناً رائعاً ونظيفاً بصورة غير متوقعة: ومن الواضح أنّه تم غسله قبل عرضه للبيع.
"توريدو، لماذا ماريتنو؟"
حدجني بنظرة شفقة على جهلي: "جميع الحملان تدعى مارتينو."
تبين أنّ الحصول على مارتينو لم يكن سوى العقبة الأولى. أخبرني توريدو بأنّ سحب اليانصيب كان يتم دائماً في اليوم السابق للعيد الديني الكبير. وهذا بالنسبة لنا يعني يوم أحد الفصح، أو لاحقاً في عيد [الجسد] القربان المقدس "Corpus Domini" عندما تزدحم المدينة بالمؤمنين القادمين من القرى المحيطة للانضمام للموكب. وعليَّ الذهاب إلى القمص و"التماس" أحد هذين اليومين منه. فذهبت إلى القمص وقيل لي – لحسن الحظ- إنّ عيد القربان المقدس سيخصص لنا. وبعد أيام قلائل اكتشفت أنّهم أعطوا اليوم ذاته لطلاب إحدى الجامعات ليقدموا مسرحية هزيلة. كان الأمر جديّاً للغاية. بدا توريدو مستاءً. وقال إنّهم سيجمحون في ذلك اليوم. حيث ستجازف بعض النساء، وستوصد جميع المتاجر نوافذها، ربما يخطفون الحمل المسكين بسهولة، وسيعتدون على الفتيات الجميلات الأربعة الذين وعدن باصطحابه، على أمل أن ينجحن في بعض التذاكر في الزمن الضائع. ماذا كنا سنفعل؟ لقد أخبرني بالذهاب لرئيس الطلاب ومقابلته (والذي أصبح فيما بعد عمدة فاسداً)، وطلب مساعدته.
وافق بكل سرور بأن يكون لنا الجزء الأول من المراسم، لنديره كما شئنا دون تدخل، وأنّهم سيؤدون عرضهم في وقت لاحق. في هذه الأثناء ظهرت لنا عقبة جديدة. لقد انتبهنا إلى أنّ المنزل المجاور، على سقف مسطح، رجل في منتصف العمر، كثيراً ما يتردد صعوداً ونزولاً وهو يحدق فينا مطوّلاً ونحن في الحديقة في الأسفل. قال توريدو إنّه كان محامياً، ولكنه جنّ. لقد عرض أن يشتري دفتر تذاكر كامل على أن يُسمح له بمقابلة السنيورة.
"علينا القبول به بالطبع."
قال تريدو بحزم شديد " لن يكون الأمر مقبولاً"
"لِمَ بالله عليك"؟
" آخر مرة قابل فيها سيدة، ظل يضايقها لعدة أشهر."
"لم نبع ما يكفي من التذاكر، وعرضه كريم جداً."
بحزم شديد جداً: " لن يكون الأمر مقبولاً."
خضعت لرأيه.
آن الأوان. أصبح مارتينو بديناً وقوياً، وكان قد كُسي طقماً متألقاً بالجدائل الحمراء والصفراء، لونيْ صقلية. وكنا جميعاً نرتدي أفضل ما لدينا، بيد أنّ الفتيات الصقليات بدون أجمل منا، ما زلنا نقسّم الطعام كما كنا نفعل في إنجلترا. بدأنا السير في الطريق الرئيسي، وانطلق عرض الطلاب على الفور في الزمن المخصص لنا. كانوا يرتدون أزياء الهنود الحمر، يندفعون في المكان على دراجاتهم النارية الصغيرة ويطلقون النار من مسدسات اللعب وكسارات الجوز. اختبأ مارتينو في أقرب متجر، ساحباً صحويحباته معه وعاث فساداً بالداخل. ولكن صاحب المحل كان طيباً، فقد كان متجره خيرياً، وأحب السنيورات. بعد هذه البداية غير الموفقة، كان لطيفاً من الطلاب أن وفوا بوعدهم وغادروا- ربما نسوا وعدهم هذا من الأساس؟
وصلنا في النهاية إلى الميدان الواقع أمام كنيسة صغيرة، وصلنا بعد القداس مباشرة. هرع المحامي المعتوه وأخذ تذكرة واحدة وهو يسأل على صرف ورقة من فئة الخمسين ليرة. قدّم نفسه واعتبر نفسه من معارفنا. ولم يكن ليزعجنا بشدة مثل باباغالي الشاب.
كان الميدان مكاناً باهراً، وقد علّقت على الشرفات المحيطة به مفارش الأسرّة ذات الألوان الفاتحة، وتغطت الطرق والأزقة بالكثير من الأزهار الملونة (كمّ منها سُرِق من حديقتي؟ تساءلت). كان القمّص هناك في زيّ مهيب، يحمل القربان المقدس في تابوت من الذهب والجواهر، يحفّه من الجانبين رجال الدين من الرتب الدنيا الذين ارتدوا أيضاً ثياباً رائعة. اتخذنا منصة صغيرة في طرف الميدان، وكان في ارتفاعها الطفيف حماية لنا من تدافع حشود المؤمنين المحتفلين.
قلت في عجبِ: إنّ هذا يبدو كما لو كان على شرفة قصر باكنهام!"
"العائلة المالكة فقط هي التي لا تحتاج للعمل من أجل تأمين موطيء أقدامها." قالت إيفا.
وتمتم القمص بصلاة قصيرة ثم رفع الخبز المقدس. جثا الناس على ركبهم، رسموا علامة الصليب على أنفسهم، ثم الأمر الذي فاجأنا جميعاً، انطلقت الألعاب النارية التي تصم الآذان والمفرقعات كدوي القنابل. لقد كان عرضاً جهنمياً، ونحن الذين حتى وقت قصير كنا نقصف بكل جدية، لم نستمتع به بأكثر مما فعل مارتينو المسكين. لقد استطعنا السيطرة عليه وتهيأنا للسحب.
تحرّك الموكب، ولكن ظل الناس يراقبوننا. لقد قيل لنا إنّ الموّقر الذي هو المقص ذاته في الغالب قد قام بالسحب، وأنّه كان يخفي التذكرة الرابحة في كُمِّ بزَّته الفضفاضة- وهذه دون شك سبّة ظلت تلاحقه حتى الآن. وحتى نبرهن على مصداقية مسابقتنا، انتقيت فتاة صغيرة ورفعت كميّ فستانها مشمرة عن ذراعيها، وأخبرتها أن ترفع ذراعيها العاريين أمام الجمهور. وقامت بالتقاط التذكرة من الإناء الزجاجي الذي قمنا بخلط مافيه من تذاكر جيداً. كان الرقم الرابح هو 563، قرأناه بصوت عال ومن الصف الأخير تقدم رجل وهو يلوّح بتذكرته. شقّ طريقه عبر الزحام ليصل إلينا حتى الدرج، لم يكن الأمر سهلاً على الإطلاق، ولكنّ عمر فرحته لم يطل. لقد كان رقمه 566. لم يتقدم غيره، وقد حدث الشيء نفسه في الرقمين التاليين، الأمر الذي لم يكن في صالح الصورة التي أردناها للمسابقة.
شعرنا بالحرج، ولكن زادت الجوائز اثنتين بحلول هذا الوقت، فقد قُدم لنا أرنبٌ، ما زال حياً للأسف، وهنالك صديق عرض رسم لوحة شخصية للفائز الخامس. ولحسن الحظ ظهر صاحبا الرقمين، ولكن لم يكن الأرنب حاضراً لتسليمه أمام الجميع. فنحن نعلم أننا لا نستطيع تعريض الحيوانين المذعورين لهذه الضوضاء، ولا السيطرة عليهما في خضمها، وأنّ على الفائز الحضور لاستلامها في الصباح التالي. هنا بدأ مظهر مسابقتنا يشبه عملية مكتملة للنصب والاحتيال.
وبينما كانت ضجة الجمهور تخفت، وزحامه يبدد، كنا نتساءل عما يمكننا فعله بماريتنو المسكين. اقتربت امرأتان من الدرجات وقالت الكبرى منهما: " عرفنا هذا الصباح أننا سنفوز باليانصب،" ولم يبد أنّها تدرك أنها أضحت الآن مسئولة عن ذلك الحيوان الكبير. كانت لها حديقة، وستضعه فيها. قمنا بتسليمه لها شاكرين. كانت هذه بداية صداقة مخلصة ومديدة مع السيدة روزا، أشد أصدقاء بريطانيا عاطفة وإعجاباً. أما مصير مارتينو فهذا ما لم أحط به خبراً، ولكني أتوقع أنّه انتهى على يد جزار مثل جميع أبناء جنسه. ولكنه على أية حال قام بدورٍ عظيم، فقد جمعنا بعض المال لصالح المسنين، وعلى الأقل تم الإعلان عن احتياجاتهم بشكل عام.
وربما شعر بعض الناس بالرغبة في المساعدة. واليوم، بعد سنوات، ما زالت الدار صامدة، وقد عادت إدارتها إلى أيدي الراهبات البيض المكرسات للخدمة من جديد
وحالما ينضم المرء إلى الخدمة الاجتماعية يظل كذلك طوال عمره. كنت في إنجلترا ومع فريق د. فريدلاندر لإرشاد الأطفال، معنيةً بأحوال المؤسسات المختصة بالأطفال عديمي الأسر، والتي في تلك الآيام- وربما في عصرنا هذا أيضاً- لم تكن على المستوى المطلوب. كانت محنة أيتام تورمينا مأساوية. فقد كان يعيش ما يزيد على الخمسين منهم في دار تديرها "الراهبات السوداوات" – يطلق عليهن هذا الاسم تمييزاً عن "الراهبات البيض" ذوات المكانة الاجتماعية الأعلى. كانت الدار في زاوية المدينة، بين السجن والمسلخ. كان أصغرهم لا يتجاوز الثالثة من العمر وأكبرهم في الثامنة عشرة. وكانوا لا يختلطون بالعالم الخارجي إلا في الجنازات عندما يتبع هؤلاء التابوت، مرتدين ملابس سوداء قاتمة، ومرنمين بالصلوات التي تتلقى عليها الراهبات أجراً بالياردة بحسب المسافة التي يقطعها المشيّعون. وهنالك إشاعات تقول بأنّ البنات يُسألن عندما يصلن سن السابعة عشرة عما إذا كن يردن أن يصبحن راهبات أم مومسات.؟ لا يتم السؤال بعبارة صريحة، ولكن كان هذا مبلغهن إذ خبرتهن في العالم الخارجي لا تتجاوز المشاركة في مراسم الدفن. ولم يكن لهنَّ أمل في الدعم من الأقارب إلا ما ندر، ولا الأمل في جني المال إلا من العمل في المنازل حيث لا تستطيع الفتاة الحفاظ على عذريتها لوقت طويل، أو يكون لها أي أمل بالتالي في العثور على زوج. في الحقيقة لم يكن لهن الخيار من أمرهن أبداً."
ما الذي يمكن فعله؟ كانت الخطوة الأولى تتمثل في عمل مقابلة مع الأم الموقرة. وافق طبيب خالي العزيز الذي يتمتع بشعبية وسط أهالي القرية على أخذنا إلى الدير. كان مبنىً كئيباً تقام فيه الصلوات لساعات طويلة يومياً، في ترنيمات رتيبة ومملة.
استقبلتنا الأم الموقرة بحرارة وقدمت لنا الشاي مع الكعك الشهي. لقد كانت امرأة صقلية ممتلئة الجسم ذات عينين طيبيتين، على عكس ما يوحي به المكان حولنا من كبت وقسوة. وضح لها الطبيب أننا نريد مساعدتها في عملها العظيم مع الفتيات الفقيرات وأنني أود دعوتهن إلى وليمة صغيرة في منزلي. كان قبولها على الفور مفاجأة لنا، وشكرت عطفنا. اتفقنا أنَّ عدد الفتيات –اثنتان وخمسون- كان كبيراً جداً لذا علينا تقسيمهن على ثلاث ولائم مختلفة. وسوف يتعين بالطبع حضور اثنتين من الراهبات مع الفتيات في كل مرة. وافقت، وارتحت لأنَّ العدد لم يكن ليزيد أكثر.
وبينما تصافحنا وتبادلنا تحايا الوداع، قالت للطبيب: " إنهن كاثوليكيات، بالطبع"
" كلا، لكنهن مسيحيات."
ونحمد لها أنها لم تسحب موافقتها. كان هذا قبل أن يناشد قمص كانتربري البابا، والكثير من الصقليين كانوا يهرعون لرشم علامة الصليب عند سماع كلمة "بروتستانت".
بعد أسبوع استقبلنا سبعة عشر فتاة واثنتين من المشرفات. لقد كنَّ صارمات وعابسات يرتدين زيّاً موحداً قاتم اللون، ما عدا الصغرى " في الثالثة من العمر" والتي كانت قد انضمت إليهن للتو. لم يتم أخذ قياسها بعد ولم تزل ترتدي ملابسها العادية. لقد كانت ملتصقة بالفتاة الأكبر سناً وكانت دامعة العينين معظم الوقت. كان هذا قبل إنشاء وزارة الرعاية، وتخصيص منحها، وربما كان لدى الكثيرين منهن أم أو أب مفطورو القلب، ترملوا حديثاً ولم يكن من حل سوى إيداع أطفالهن في أحدى دور الأيتام.
بدا أنَّ ضيفاتي عاجزات عن التصرف بعفوية. عندما أدعوهن للجلوس أو تناول الطعام، كن يطعن أمري في فتور. ومحاولة مني لكسر الرسمية القاتلة، جهزنا أزراراً من أزهار متنوعة، كل منها بلون مختلف، وأقنعنا الفتيات أن يخترن من بينها. وبتشجيع منا بدأن الاندماج ببطء بينما كنا نثبت الأزرار على فساتينهن. كان الطعام فعالاً في إضفاء الحيوية، واقتدناهن إلى مائدة الشاي والمشروبات. وحالما اتخذن مقاعدهن وتلت الراهبات صلاة النعمة، كان لابد أن يتلقين التعليمات أولاً من نوع: " خذن كعكة، وأبدأن الأكل،" وما إلى ذلك. وبأسرع ما يمكن تركناهن في ضيافة صقلية على يد ماريا ومساعداتها، وبلهجتهن المطمئنة، بينما دعونا الراهبات إلى احتساء بعض الكوكا، وتناول الكعك في الغرفة المجاورة. وتفاجأت لرؤيتهن يتخلين عن مسؤوليتهن في الإشراف على الفتيات، وتلبية الدعوة.
ثم سألت إحداهن، والتي كان يبدو عليها الفضول والفزع معاً، وهي تشير إلى المدفأة الكبيرة: " ماذا تفعلين هناك؟" لم ترد البوح بما ظنت أننا نفعله. فوضّحت لها أننا نشعل جذوع الأخشاب لنبقى في دفء أثناء الشتاء. لكن لم يكفِ هذا لإقناعها أو إزالة تعبير الخوف الذي كسى ملامحها. هل ظنت أنّه مذبح لقداس أسود؟ لقد كنَّ يرشمن علامة الصليب على أنفسهن بشكل متكرر، ويشرن إلى أن ديننا "عديم الجدوى" ويصلين للسيدة العذراء من أجل مساعدتنا. ولم نكن نستطيع شيئاً سوى الابتسام بطريقة ودية- فقد حالت قلة معرفتنا باللغة الإيطالية بيننا والتعمق في أي نقاش ديني. " انتهينا من شرب الشاي، وأقنعت كبرى اليتيمات أن تأتي معي لترى جغرافيا المنزل، تحسباً لأي احتياج طاريء من قبل الصغيرات.
وقالت فجأة في شجاعة غير متوقعة: سيدتي، سأصلي من أجلك كل ليلة ما حييت."
" شكراً جزيلاً."
فتشجعت قائلة: " لابد أنّه من الفظيع أن تديني بعقيدة زائفة!"
ابتسمت، أملاً في التعبير عن أنَّ هذا الشيء لا يزعجني بالضرورة.
اجتمعنا في سطح المنزل الواسع، وفي الخلفية مشهد جبل إيتنا الرائع والثلوج تغطيه، وبدأنا نعلمهم العاب صيد الأحذية، وخطوات الجدة، والكراسي الموسيقية. لم يكن بالعمل السهل، ولكنهن اندمجن تدريجياً، وتعالت ضحكاتهن في النهاية، واقتربن أكثر من التصرف على طبيعتهن. وانضمت إلينا الراهبات أيضاً، واستمتعن أيما استمتاع وبقين حتى غربت الشمس وكان الطقس بارداً. ولم يغادرن. يا للمسكينات: لابد أنّهن لم يلعبن من قبل، فقد نشأن يتيمات أيضاً.
انكسر الجليد وزالت الحواجز وقد استمر هذا الأمر مع المجموعتين الأخريين. وصارت مناسبات سنوية. بعد سنة أو نحوها، لعبت الراهبات لعبة لمسة الأعمى، بل ويقفزن على الجدران المنخفضة هرباً من قبضة أيدي بونيري البستانيّ. وقد أراد الجميع الانضمام للمناسبة في النهاية وانتهى بنا الأمر إلى استضافة أكثر من مشرفتين اثنتين.
تأكدت شكوكي حول مخاوف الراهبات من القداس الأسود عندما كنا مدعوين إلى "عرض مسرحي" من أجل يوم اسم الأم الموقرة. تنكر الشيطان على هيئة امرأة شريرة من البشر ترتدي الحرير واللآلي لكنها لا تكشف عن غير وجهها حشمةً، كانت تغري الفتيات الفقيرات البريئات بوعود الثروة والسعادة. فيستجبن وتتحول أمورهن من سيء إلى أسوأ حتى ينتصر الشيطان ويصل به الأمر إلى أخذهن للقداس الأسود. وفي تلك اللحظة قمن جميعاً برشم علامة الصليب، فينسلخ الشيطان من ملابسها، مطلقاً صرخة بشعة، ويغوص في الستائر السوداء، فتصعد الفتيات المغرر بهن ببطء عائدات إلى نعمة الرب. إذن لقد كنت مخطئة إذ ظننت أنّهن لا يجدن اطمئناناً في الدار.
في عدة مناسبات لاحقاً، كنت أقوم بما أستطيعه على ضآلته للالتفاف حول التأخير غير المقبول في سداد معاشات المسنين الذين تم الاعتراف بحقهم في الحصول عليها. وفي أغلب الأحيان كانت تمر شهور بل حتى سنوات قبل أن يتم سداد أي شيء منها. وعليه لابد أن تثمر زيارتي عن أثر مختلف ودائم، عندما ذهبت إلى مكتب مسينا للتأمين الاجتماعي، أخذت معي ثلاثًا من أجمل الشابات الأجنبيات. يتبعن الآنسة فيلبس، وكن يضفين الإثارة بينما كنَّ يعبرن من خلال المكاتب الخارجية حتى المكتب الرئيسي.
بدون مساعدتهن كنت سأجد نفسي عالقة مع أحد الموظفين الصغار. ويلي لم تجد الحيلة إلا قليلاً: فقد توفي المستفيد من راتب التقاعد وهو يعاني الفقر والإهمال وآلت المستحقات إلى أقارب لا يهتمون لأمره.
قمت في أحد الأيام بمهاتفة أحد مكاتب البريد المحلية للسؤال عما إذا كان الراتب التقاعدي الخاص بإحدى صديقاتي السبعينيات- والتي أقل ما يقال عن دماغها أنّه صوّفي- قد وصل أم لا. وربما كان الأمر أكثر سهولة إن وافقت على توقيع ورقة لتفويض وكيل يتسلم عنها الراتبين، واحد يتعلق بوالدها المتوفي في غارة جوية في روما قبل أكثر من أربعين عاماً والثاني بها شخصياً.
ولكنها تمسكت بشدة بحقها بتسلم المال شخصياً. وبما أنّها كانت عاجزة عن السير كل تلك المسافة. كنت أقلها بسيارتي إلى أقرب نقطة رَكْن، والتي نادراً ما تكون قريبة جداً. أرادت السيدة المسنّة من موظف البريد نفسه أن ينقدها كل عشرة آلاف ليرة في يدها. وفي المرة الأولى التي ذهبنا فيها كنت قد تحققت من وصول التفويض بالدفع، ولكني لم أفكر في السؤال عما إذا كان هنالك مال لتنفيذ الدفع. ولم يكن لديهم المال.
كان المستفيدون من رواتب التعاقد ينتظرون في قاعة باردة ليس فيها مقاعد كثيرة. وكان لسان الحال أنْ "صبراً، صبراً".
لكن كانت السيدة العجوز التي تعيّن عليها السير ببطء من أقصى أطراف المدينة إلى الطرف المقابل، تتبعها جميع قططها الخمسة، لم تستطع صبراً. بينما كنت أطلب رؤية المدير، قامت بصب لعناتها على جمع السلطات سواءً أكانت ذات صلة أم لا.
ويقال إنَّ المدير كان خارجاً لجلب المال من أحد المصارف في منتصف الطريق الرئيسي. ويرجح أنّه توقف لاحتساء بعض القهوة في طريق عودته. فيم العجلة؟
في تلك الأثناء كانت صاحبة القطة تصرخ بأعلى صوتها: "لا بدّ أن ديوث المطران هو من هرب به! عليه اللعنة! أو العمدة؟ إنّه يعلم أنني منحت عدوه صوتي في الانتخابات. وعندما كان علي الدخول إلى المشفى بسبب ساقيْ، رأى ذلك الطبيب قطع العصب حتى لا أستطيع المشي بصورة صحيحة مرة أخرى، عليه اللعنة!" حاول الناس تهدئتها أو على الأقل حملها على التقليل من صرخاتها.
خرج مدير القسم من مكتب خفيّ. صرخ قائلاً:" اخرجي وخذي معك تلك القطط!"
" ماذا، أطفالي؟ إنهم يتبعونني إلى كل مكان. إنّهم يعلمون أنني أحتاج المال لشراء الأسماك لهم. لديهم الحق في التواجد هنا بينما ننتظر ذلك المدير الأبله. ولن أتزحزح حتى أخذه."
أخيراً وصل المدير، بعكسنا، كان نشيطاً وتبدو عليه سيماء الراحة، ليجد الحشد الغاضب متعطشاً لسفح دمه. تم دفع النقود وتوقيع الإيصالات، في خربشات غير مقروءة في الغالب، ويمكنهم الآن البدء في رحلات العودة إلى ديارهم. دعوت صاحبة القطط إلى سيارتي: " لتحافظي على ساقيك الضعيفتين."
" وأطفالي؟"
"يمكنك إحضارهم أيضاً، هنالك متسع لكم جميعاً في الخلف." كانت القطط رقيقة، نظيفة، وجيدة التغذية. واشكّ أنّها تقدم لهن طعاماً أفضل مما تأكل. لقد ترددت قليلاً ثم قبلت على مضض. لقد مددت ذراعي لمساعدة كلٍ من المرأتين المسنتين، وسرنا الهوينى ثلاثتنا، تتبعنا القطط الخمسة، في طريقنا إلى السيارة. وقد لفت انتباهي أنّ أحد الإطارات كان مفرغاً عن آخره، والسيارة لا تتحرك. ولم تنتظر السيدة، مؤكدة عدم ثقتها في جميع العربات المدولبة. هدّأت من روع سيدتي، وجعلتها تجلس في المقعد الأمامي ريثما يتم تغيير الإطار. بعد ثلاثة أرباع الساعة مررنا بالسيارة وأتباعها. بساقيها "عديمتي الأعصاب" وقد وصلت إلى منتصف مسافة رحلتها الشهرية. ولكنها مثل السنيورة ترغب في استلام أموالها بنفسها. هل يدل هذا على ذاك الشيء من القوة الذي ما زالت كلاهما تتمتع به، كما يفعلن بإصرارهن على التمسك بمفاتيحهن القديمة والتي أصبحت غير ذات جدوى؟
لاحقاً، بذلت جهداً غير مباشر في الانخراط مرة أخرى في العمل الاجتماعي. في أقصى الشمال الغربي من صقلية، وتماماً في قلب منطقة المافيا، كان دانيلو دولسي، الذي يعرف أيضاً باسم "غاندي صقلية"، والذي كان معمارياً، وشاعراً، ومصلحاً اجتماعياً ومحارباً صلباً ضد الظلم، قد بدأ عمله. وكما قال، " لم يكن له سوى الجوع ليشهره في وجه الجوع"، وبدأ الصيام حتى الموت إن دعت الضرورة. كما أنّه قام أيضاً بتنظيم إضرابات عكسية، موعزاً إلى العاطلين من الرجال بأنّ بإمكانهم القيام بعمل مفيد أثناء بطالتهم. وبدأ معهم بناء طريق غاية في الأهمية. لتجنب احتمال العنف، أقنعهم بترك المُدى التي كانوا يستخدمونها لتقطيع خبزهم في المنزل. وعندما أمرتهم الشرطة بالتوقف، جعلهم يستلقون على الطريق جميعاً، بدون أن يقدموا على أية مقاومة أخرى. تم اعتقال دانيلو الذي كان آخرهم استسلاماً، وقد متعه الله ببسطة في الجسم. وجهت إليه تهم قطع الطريق، وأودع السجن لعدة أسابيع. واستطاع في محاكمته أن يدين الكثير من أنواع الظلم في منطقته. كما اكتسب اهتماماً كبيراً من خلال كتبه الرائعة، لقد كان يفتح نوافذ صقلية على الخارج، ونوافذ الخارج على صقلية. وقد عقدت اللجان في شتى دول العالم لجمع المال وتشجيع المتطوعين. لسوء الحظ لم يُحسن اختيار الآخرين، أو تدريبهم بما يتناسب مع صعوبة هذا العمل الرائد، في هذا الإقليم المتخلف. وقد كنت أبعد من أن أستطيع القيام بدور فعال بنفسي، بالإضافة إلى الانشغال. حاولت إقناع دانيلو باستخدام قصر كوسيني كاستراحة للناس قبل وليس بعد الانهيار. فجاء ليقابلني ويرى المنزل، ولكنه لم يدرك أنّ المقصودين هم مساعدوه المخلصين للقضية، المرهقين من كثرة العمل. على أية حال استفاد الكثير منهم في المنطقة ذاتها بالإضافة إلى ضحايا الهزة الأرضية من الإقامة الهادئة في قصر كوسيني، وهو الأمر الذي ساعدهم على العودة إلى أنماط حيواتهم القاسية.
بيت في صقلية | تأليف: دافني فيليبس | ترجمة: أميمة الزبير
الفصل الحادي عشر- العمل الاجتماعي في صقلية
*****
ملاحظة: يوجد مجموعة جميلة من الصور وردت مع هذا الفصل في الكتاب وضعناها في هذا الرابط لمشاهدتها https://cutt.us/CasaCuseni
فرض علينا ضيق الأحوال أثناء زيارتي الأولى مع إيفا الاقتصاد في الجانب المادي. لم ينطو الأمر على كثير من الصعوبة خاصة بعد سنوات من الحرب والتقشف. كانت بريطانيا ما تزال في قبضة الأخير: حيث ندرت الرفاهية بجميع أنواعها. كان الطعام الصقلي تغييراً شهياً بخبزه الطيب المذاق، والثوم وأسماك السردين الطازجة، وزيت الزيتون والفواكه الحمضية على رأس القائمة الجميلة. إنّه أمر محزن أن نفتقر إلى كل ذلك في الوطن، بيد أننا لما كنا نستطيع الاستمتاع بها حتى إن توفر لدينا المال الكافي لشرائها: لأننا كنا سننعزل عن الأغلبية العظمى من الشعب الصقلي، الذي عانوا أكثر منا بكثير. وكثيراً ماكانوا يفاجأون بنفاذ المؤن بعد ساعات من الوقوف في الصفوف ليحصلوا على حصصهم الضئيلة، فيضطرون للمغادرة وهم صفر اليدين. وهو الأمر الذي يحدث على شكل متكرر يفتقر إلى العدالة بدرجة كبيرة حيث يستطيع الأثرياء والمميزون تحمل كلفة الأكل في المطاعم باهظة الثمن ويحتفظون بما تنتجه أراضيهم. وكنا نتلقى الدعوات في مناسبات قليلة، حيث ننظر في دهشة للحوم الكبيرة الحجم، والأجبان الضخمة، وألواح الزبدة التي يصل وزنها إلى كيلو، والتي لم نر مثلها لسنوات طوال.
في الخارج، في كل الاحتمالات، تلتصق وجوه الأطفال الجوعى والضعفاء هزيلي الأجساد، بزجاج الأبواب ليتم طردهم على عجل، مع القطط والكلاب التي تتضور جوعاً. لم يكن في التجربة متعة ولم نتمنَّ تكرارها.
حالما شعرنا بالاستقرار قليلاً، وتمكنا من السيطرة على المشكلات خارج قصر كوسيني، بدأت اختصاصية الخدمة الاجتماعية داخلي في العمل، وسألت عن دار المسنين الفقراء. قام بتأسيس هذا الملجأ المذكور آنفاً، رجل ألماني اسمه غراندمونت، وبعد وفاته خلفه خالي رئيساً للدار لخمسة وعشرين عاماً، أثناءها توجب العمل على جمع كل نفقاته، إذ لم تخصص الحكومة أي نوع من الرعاية. كانت الإعلانات تعلّق في الفنادق لتوجيه الناس بعدم منح المال للمتسولين- الذين كان يجمع أحدهم من المال في اليوم ما لا يستطيع عامل صادق مجدّ في عمله- وأن يساعدوا الدار بدلاً عن ذلك. استطاع روبرت كونه إنجليزياً أن يضمن النزاهة في إنفاق المال. كما اقتنع أيضاً بتنظيم فعاليات جمع التبرعات، وكان يهتف عند بيع إحدى لوحاته، كما قيل لي، " سوف يجد نزلائي المساكين اليوم طعاماً طيباً!"
منذ سنوات إقامتي الأولى كنت قد سمعت عن الدار، بما فيها من مسنين يقارب عددهم العشرة أشخاص، وراهبات مكرسّات كن يقمن برعايتهم. أصبت بالرعب عندما عرفت بأنّهم الآن يتضورون جوعاً. لم تعد الراهبات هن المسؤولات عن الدار. وبدلاً منهن جاء رجل أعمى وزوجته الغاضبة، وقيل إنّهما كانا يسرقان مافي الدار من طعام على قلته. في الحقيقة بدا الأمر كما لو أنّ أولئك المسنين الإثني، عشر سيطردون إلى الشارع جميعاً بسبب موت رجل إنجليزي واحد. بدا أنَّ معظم الناس كانوا يعتقدون أنَّ فريق كرة القدم أكثر أهمية من هؤلاء المساكين.
لابد من عمل شيء ما. وفي غمرة الإحباط، قصدت توريدو، الذي كان لا يزال يقيم معنا في تلك الأيام.
" الأمر بسيط!" قال بطريقته الميلودرامية، "إنَ من تقاليد هذا المنزل تنظيم مسابقة يانصيب لصالح الدار عندما تستدعي الحاجة ذلك."
"مم؟"
"دائماً لحم الحمل، واثنتين من لوحات خالك. يجب أن تكون التذاكر منخفضة الثمن؛ كان دون روبيرتو يشدد على ذلك، إذ ينبغي أن يكون بوسع الجميع شراء واحدة- لم تكن أبداً تتجاوز مبلغ 15 ليرة."
ولكن كيف نستطيع الحصول على لحم الحمل؟"
" الأمر بسيط: نذهب إلى السوق الشهري على الشاطيء، ونحضر واحداً صغيراً إلى هنا. سوف يزيد وزنه من أكل العشب الموجود في الأعلى، وسوف يكون جائزة كبرى لأي شخص." ابتهج توريدو باضطلاعه بشؤون التنظيم ومهامه- طالما كنت أنا من يدفع.
وسرنا في صبيحة يوم جميل على الطريق الصخري إلى الشاطيء حيث كان يقام معرض تجاري كل شهر. سرعان ما عثرنا على زوجين متقدمين في السن يقودان كبشاً وحملين صغيرين. تم الاتفاق على سعر معين بعد تفاوض، بلغة صقلية صرفة لم أستطع مجاراتها، تخلله الكثير من الصراخ، والتلويح بالأيدي والأذرع. ولذلك اقترحت ألا داعي لأن يضطر الحيوان المسكين إلى قطع كل هذه المسافة إلى الشاطيء بينما سيتعين جره صعوداً إلى أعلى الهضبة مرة أخرى. اعتقد الرجل العجوز أنّها فكرة صائبة، ولكن زوجته، والتي يبدو أنّها هي المديرة، كانت معارضة، وعليه واصلنا جميعاً المسير إلى أسفل التلّة.
بينما كنا ننظر في الجمهور، والمشهد اللطيف حيث المزارعين، والخيول، والخنازير، والخراف، واحسرتاه والطيور المغردة في أقفاصها، كانت عين توريدو لا تكاد تزيغ عن حمله.
سرعان ما رأيناه يقترب من السيدة العجوز في غضب. لقد كانت تجلس وحدها على الرمل وساقاها ممددتان أمامها، على رأسها منديل يقيها حرارة شمس الربيع المشرقة، تقضم قطعة من رغيف، وتتظاهر بأنّ توريدو لا يعنيها على الإطلاق. من الواضح أنّها كانت تصرّ على إحضار الجميع إلى الأسفل لأنّها أرادت الحصول على مشترٍ أكثر سخاءً.
استمرت في المضغ دون هوادة متصنعة الصمم بينما ارتفع صوته أكثر وأكثر، وأصبحت إشاراته أشد حدة. ولكنها نهضت فجأة وأخذت المفكرة التي كان يلوح بها بغضب متزايد، أمام أنفها:" ماريتنو" أصبح من حقنا بالسعر المتفق عليها مسبقاً.
لقد كان حيواناً رائعاً ونظيفاً بصورة غير متوقعة: ومن الواضح أنّه تم غسله قبل عرضه للبيع.
"توريدو، لماذا ماريتنو؟"
حدجني بنظرة شفقة على جهلي: "جميع الحملان تدعى مارتينو."
تبين أنّ الحصول على مارتينو لم يكن سوى العقبة الأولى. أخبرني توريدو بأنّ سحب اليانصيب كان يتم دائماً في اليوم السابق للعيد الديني الكبير. وهذا بالنسبة لنا يعني يوم أحد الفصح، أو لاحقاً في عيد [الجسد] القربان المقدس "Corpus Domini" عندما تزدحم المدينة بالمؤمنين القادمين من القرى المحيطة للانضمام للموكب. وعليَّ الذهاب إلى القمص و"التماس" أحد هذين اليومين منه. فذهبت إلى القمص وقيل لي – لحسن الحظ- إنّ عيد القربان المقدس سيخصص لنا. وبعد أيام قلائل اكتشفت أنّهم أعطوا اليوم ذاته لطلاب إحدى الجامعات ليقدموا مسرحية هزيلة. كان الأمر جديّاً للغاية. بدا توريدو مستاءً. وقال إنّهم سيجمحون في ذلك اليوم. حيث ستجازف بعض النساء، وستوصد جميع المتاجر نوافذها، ربما يخطفون الحمل المسكين بسهولة، وسيعتدون على الفتيات الجميلات الأربعة الذين وعدن باصطحابه، على أمل أن ينجحن في بعض التذاكر في الزمن الضائع. ماذا كنا سنفعل؟ لقد أخبرني بالذهاب لرئيس الطلاب ومقابلته (والذي أصبح فيما بعد عمدة فاسداً)، وطلب مساعدته.
وافق بكل سرور بأن يكون لنا الجزء الأول من المراسم، لنديره كما شئنا دون تدخل، وأنّهم سيؤدون عرضهم في وقت لاحق. في هذه الأثناء ظهرت لنا عقبة جديدة. لقد انتبهنا إلى أنّ المنزل المجاور، على سقف مسطح، رجل في منتصف العمر، كثيراً ما يتردد صعوداً ونزولاً وهو يحدق فينا مطوّلاً ونحن في الحديقة في الأسفل. قال توريدو إنّه كان محامياً، ولكنه جنّ. لقد عرض أن يشتري دفتر تذاكر كامل على أن يُسمح له بمقابلة السنيورة.
"علينا القبول به بالطبع."
قال تريدو بحزم شديد " لن يكون الأمر مقبولاً"
"لِمَ بالله عليك"؟
" آخر مرة قابل فيها سيدة، ظل يضايقها لعدة أشهر."
"لم نبع ما يكفي من التذاكر، وعرضه كريم جداً."
بحزم شديد جداً: " لن يكون الأمر مقبولاً."
خضعت لرأيه.
آن الأوان. أصبح مارتينو بديناً وقوياً، وكان قد كُسي طقماً متألقاً بالجدائل الحمراء والصفراء، لونيْ صقلية. وكنا جميعاً نرتدي أفضل ما لدينا، بيد أنّ الفتيات الصقليات بدون أجمل منا، ما زلنا نقسّم الطعام كما كنا نفعل في إنجلترا. بدأنا السير في الطريق الرئيسي، وانطلق عرض الطلاب على الفور في الزمن المخصص لنا. كانوا يرتدون أزياء الهنود الحمر، يندفعون في المكان على دراجاتهم النارية الصغيرة ويطلقون النار من مسدسات اللعب وكسارات الجوز. اختبأ مارتينو في أقرب متجر، ساحباً صحويحباته معه وعاث فساداً بالداخل. ولكن صاحب المحل كان طيباً، فقد كان متجره خيرياً، وأحب السنيورات. بعد هذه البداية غير الموفقة، كان لطيفاً من الطلاب أن وفوا بوعدهم وغادروا- ربما نسوا وعدهم هذا من الأساس؟
وصلنا في النهاية إلى الميدان الواقع أمام كنيسة صغيرة، وصلنا بعد القداس مباشرة. هرع المحامي المعتوه وأخذ تذكرة واحدة وهو يسأل على صرف ورقة من فئة الخمسين ليرة. قدّم نفسه واعتبر نفسه من معارفنا. ولم يكن ليزعجنا بشدة مثل باباغالي الشاب.
كان الميدان مكاناً باهراً، وقد علّقت على الشرفات المحيطة به مفارش الأسرّة ذات الألوان الفاتحة، وتغطت الطرق والأزقة بالكثير من الأزهار الملونة (كمّ منها سُرِق من حديقتي؟ تساءلت). كان القمّص هناك في زيّ مهيب، يحمل القربان المقدس في تابوت من الذهب والجواهر، يحفّه من الجانبين رجال الدين من الرتب الدنيا الذين ارتدوا أيضاً ثياباً رائعة. اتخذنا منصة صغيرة في طرف الميدان، وكان في ارتفاعها الطفيف حماية لنا من تدافع حشود المؤمنين المحتفلين.
قلت في عجبِ: إنّ هذا يبدو كما لو كان على شرفة قصر باكنهام!"
"العائلة المالكة فقط هي التي لا تحتاج للعمل من أجل تأمين موطيء أقدامها." قالت إيفا.
وتمتم القمص بصلاة قصيرة ثم رفع الخبز المقدس. جثا الناس على ركبهم، رسموا علامة الصليب على أنفسهم، ثم الأمر الذي فاجأنا جميعاً، انطلقت الألعاب النارية التي تصم الآذان والمفرقعات كدوي القنابل. لقد كان عرضاً جهنمياً، ونحن الذين حتى وقت قصير كنا نقصف بكل جدية، لم نستمتع به بأكثر مما فعل مارتينو المسكين. لقد استطعنا السيطرة عليه وتهيأنا للسحب.
تحرّك الموكب، ولكن ظل الناس يراقبوننا. لقد قيل لنا إنّ الموّقر الذي هو المقص ذاته في الغالب قد قام بالسحب، وأنّه كان يخفي التذكرة الرابحة في كُمِّ بزَّته الفضفاضة- وهذه دون شك سبّة ظلت تلاحقه حتى الآن. وحتى نبرهن على مصداقية مسابقتنا، انتقيت فتاة صغيرة ورفعت كميّ فستانها مشمرة عن ذراعيها، وأخبرتها أن ترفع ذراعيها العاريين أمام الجمهور. وقامت بالتقاط التذكرة من الإناء الزجاجي الذي قمنا بخلط مافيه من تذاكر جيداً. كان الرقم الرابح هو 563، قرأناه بصوت عال ومن الصف الأخير تقدم رجل وهو يلوّح بتذكرته. شقّ طريقه عبر الزحام ليصل إلينا حتى الدرج، لم يكن الأمر سهلاً على الإطلاق، ولكنّ عمر فرحته لم يطل. لقد كان رقمه 566. لم يتقدم غيره، وقد حدث الشيء نفسه في الرقمين التاليين، الأمر الذي لم يكن في صالح الصورة التي أردناها للمسابقة.
شعرنا بالحرج، ولكن زادت الجوائز اثنتين بحلول هذا الوقت، فقد قُدم لنا أرنبٌ، ما زال حياً للأسف، وهنالك صديق عرض رسم لوحة شخصية للفائز الخامس. ولحسن الحظ ظهر صاحبا الرقمين، ولكن لم يكن الأرنب حاضراً لتسليمه أمام الجميع. فنحن نعلم أننا لا نستطيع تعريض الحيوانين المذعورين لهذه الضوضاء، ولا السيطرة عليهما في خضمها، وأنّ على الفائز الحضور لاستلامها في الصباح التالي. هنا بدأ مظهر مسابقتنا يشبه عملية مكتملة للنصب والاحتيال.
وبينما كانت ضجة الجمهور تخفت، وزحامه يبدد، كنا نتساءل عما يمكننا فعله بماريتنو المسكين. اقتربت امرأتان من الدرجات وقالت الكبرى منهما: " عرفنا هذا الصباح أننا سنفوز باليانصب،" ولم يبد أنّها تدرك أنها أضحت الآن مسئولة عن ذلك الحيوان الكبير. كانت لها حديقة، وستضعه فيها. قمنا بتسليمه لها شاكرين. كانت هذه بداية صداقة مخلصة ومديدة مع السيدة روزا، أشد أصدقاء بريطانيا عاطفة وإعجاباً. أما مصير مارتينو فهذا ما لم أحط به خبراً، ولكني أتوقع أنّه انتهى على يد جزار مثل جميع أبناء جنسه. ولكنه على أية حال قام بدورٍ عظيم، فقد جمعنا بعض المال لصالح المسنين، وعلى الأقل تم الإعلان عن احتياجاتهم بشكل عام.
وربما شعر بعض الناس بالرغبة في المساعدة. واليوم، بعد سنوات، ما زالت الدار صامدة، وقد عادت إدارتها إلى أيدي الراهبات البيض المكرسات للخدمة من جديد
وحالما ينضم المرء إلى الخدمة الاجتماعية يظل كذلك طوال عمره. كنت في إنجلترا ومع فريق د. فريدلاندر لإرشاد الأطفال، معنيةً بأحوال المؤسسات المختصة بالأطفال عديمي الأسر، والتي في تلك الآيام- وربما في عصرنا هذا أيضاً- لم تكن على المستوى المطلوب. كانت محنة أيتام تورمينا مأساوية. فقد كان يعيش ما يزيد على الخمسين منهم في دار تديرها "الراهبات السوداوات" – يطلق عليهن هذا الاسم تمييزاً عن "الراهبات البيض" ذوات المكانة الاجتماعية الأعلى. كانت الدار في زاوية المدينة، بين السجن والمسلخ. كان أصغرهم لا يتجاوز الثالثة من العمر وأكبرهم في الثامنة عشرة. وكانوا لا يختلطون بالعالم الخارجي إلا في الجنازات عندما يتبع هؤلاء التابوت، مرتدين ملابس سوداء قاتمة، ومرنمين بالصلوات التي تتلقى عليها الراهبات أجراً بالياردة بحسب المسافة التي يقطعها المشيّعون. وهنالك إشاعات تقول بأنّ البنات يُسألن عندما يصلن سن السابعة عشرة عما إذا كن يردن أن يصبحن راهبات أم مومسات.؟ لا يتم السؤال بعبارة صريحة، ولكن كان هذا مبلغهن إذ خبرتهن في العالم الخارجي لا تتجاوز المشاركة في مراسم الدفن. ولم يكن لهنَّ أمل في الدعم من الأقارب إلا ما ندر، ولا الأمل في جني المال إلا من العمل في المنازل حيث لا تستطيع الفتاة الحفاظ على عذريتها لوقت طويل، أو يكون لها أي أمل بالتالي في العثور على زوج. في الحقيقة لم يكن لهن الخيار من أمرهن أبداً."
ما الذي يمكن فعله؟ كانت الخطوة الأولى تتمثل في عمل مقابلة مع الأم الموقرة. وافق طبيب خالي العزيز الذي يتمتع بشعبية وسط أهالي القرية على أخذنا إلى الدير. كان مبنىً كئيباً تقام فيه الصلوات لساعات طويلة يومياً، في ترنيمات رتيبة ومملة.
استقبلتنا الأم الموقرة بحرارة وقدمت لنا الشاي مع الكعك الشهي. لقد كانت امرأة صقلية ممتلئة الجسم ذات عينين طيبيتين، على عكس ما يوحي به المكان حولنا من كبت وقسوة. وضح لها الطبيب أننا نريد مساعدتها في عملها العظيم مع الفتيات الفقيرات وأنني أود دعوتهن إلى وليمة صغيرة في منزلي. كان قبولها على الفور مفاجأة لنا، وشكرت عطفنا. اتفقنا أنَّ عدد الفتيات –اثنتان وخمسون- كان كبيراً جداً لذا علينا تقسيمهن على ثلاث ولائم مختلفة. وسوف يتعين بالطبع حضور اثنتين من الراهبات مع الفتيات في كل مرة. وافقت، وارتحت لأنَّ العدد لم يكن ليزيد أكثر.
وبينما تصافحنا وتبادلنا تحايا الوداع، قالت للطبيب: " إنهن كاثوليكيات، بالطبع"
" كلا، لكنهن مسيحيات."
ونحمد لها أنها لم تسحب موافقتها. كان هذا قبل أن يناشد قمص كانتربري البابا، والكثير من الصقليين كانوا يهرعون لرشم علامة الصليب عند سماع كلمة "بروتستانت".
بعد أسبوع استقبلنا سبعة عشر فتاة واثنتين من المشرفات. لقد كنَّ صارمات وعابسات يرتدين زيّاً موحداً قاتم اللون، ما عدا الصغرى " في الثالثة من العمر" والتي كانت قد انضمت إليهن للتو. لم يتم أخذ قياسها بعد ولم تزل ترتدي ملابسها العادية. لقد كانت ملتصقة بالفتاة الأكبر سناً وكانت دامعة العينين معظم الوقت. كان هذا قبل إنشاء وزارة الرعاية، وتخصيص منحها، وربما كان لدى الكثيرين منهن أم أو أب مفطورو القلب، ترملوا حديثاً ولم يكن من حل سوى إيداع أطفالهن في أحدى دور الأيتام.
بدا أنَّ ضيفاتي عاجزات عن التصرف بعفوية. عندما أدعوهن للجلوس أو تناول الطعام، كن يطعن أمري في فتور. ومحاولة مني لكسر الرسمية القاتلة، جهزنا أزراراً من أزهار متنوعة، كل منها بلون مختلف، وأقنعنا الفتيات أن يخترن من بينها. وبتشجيع منا بدأن الاندماج ببطء بينما كنا نثبت الأزرار على فساتينهن. كان الطعام فعالاً في إضفاء الحيوية، واقتدناهن إلى مائدة الشاي والمشروبات. وحالما اتخذن مقاعدهن وتلت الراهبات صلاة النعمة، كان لابد أن يتلقين التعليمات أولاً من نوع: " خذن كعكة، وأبدأن الأكل،" وما إلى ذلك. وبأسرع ما يمكن تركناهن في ضيافة صقلية على يد ماريا ومساعداتها، وبلهجتهن المطمئنة، بينما دعونا الراهبات إلى احتساء بعض الكوكا، وتناول الكعك في الغرفة المجاورة. وتفاجأت لرؤيتهن يتخلين عن مسؤوليتهن في الإشراف على الفتيات، وتلبية الدعوة.
ثم سألت إحداهن، والتي كان يبدو عليها الفضول والفزع معاً، وهي تشير إلى المدفأة الكبيرة: " ماذا تفعلين هناك؟" لم ترد البوح بما ظنت أننا نفعله. فوضّحت لها أننا نشعل جذوع الأخشاب لنبقى في دفء أثناء الشتاء. لكن لم يكفِ هذا لإقناعها أو إزالة تعبير الخوف الذي كسى ملامحها. هل ظنت أنّه مذبح لقداس أسود؟ لقد كنَّ يرشمن علامة الصليب على أنفسهن بشكل متكرر، ويشرن إلى أن ديننا "عديم الجدوى" ويصلين للسيدة العذراء من أجل مساعدتنا. ولم نكن نستطيع شيئاً سوى الابتسام بطريقة ودية- فقد حالت قلة معرفتنا باللغة الإيطالية بيننا والتعمق في أي نقاش ديني. " انتهينا من شرب الشاي، وأقنعت كبرى اليتيمات أن تأتي معي لترى جغرافيا المنزل، تحسباً لأي احتياج طاريء من قبل الصغيرات.
وقالت فجأة في شجاعة غير متوقعة: سيدتي، سأصلي من أجلك كل ليلة ما حييت."
" شكراً جزيلاً."
فتشجعت قائلة: " لابد أنّه من الفظيع أن تديني بعقيدة زائفة!"
ابتسمت، أملاً في التعبير عن أنَّ هذا الشيء لا يزعجني بالضرورة.
اجتمعنا في سطح المنزل الواسع، وفي الخلفية مشهد جبل إيتنا الرائع والثلوج تغطيه، وبدأنا نعلمهم العاب صيد الأحذية، وخطوات الجدة، والكراسي الموسيقية. لم يكن بالعمل السهل، ولكنهن اندمجن تدريجياً، وتعالت ضحكاتهن في النهاية، واقتربن أكثر من التصرف على طبيعتهن. وانضمت إلينا الراهبات أيضاً، واستمتعن أيما استمتاع وبقين حتى غربت الشمس وكان الطقس بارداً. ولم يغادرن. يا للمسكينات: لابد أنّهن لم يلعبن من قبل، فقد نشأن يتيمات أيضاً.
انكسر الجليد وزالت الحواجز وقد استمر هذا الأمر مع المجموعتين الأخريين. وصارت مناسبات سنوية. بعد سنة أو نحوها، لعبت الراهبات لعبة لمسة الأعمى، بل ويقفزن على الجدران المنخفضة هرباً من قبضة أيدي بونيري البستانيّ. وقد أراد الجميع الانضمام للمناسبة في النهاية وانتهى بنا الأمر إلى استضافة أكثر من مشرفتين اثنتين.
تأكدت شكوكي حول مخاوف الراهبات من القداس الأسود عندما كنا مدعوين إلى "عرض مسرحي" من أجل يوم اسم الأم الموقرة. تنكر الشيطان على هيئة امرأة شريرة من البشر ترتدي الحرير واللآلي لكنها لا تكشف عن غير وجهها حشمةً، كانت تغري الفتيات الفقيرات البريئات بوعود الثروة والسعادة. فيستجبن وتتحول أمورهن من سيء إلى أسوأ حتى ينتصر الشيطان ويصل به الأمر إلى أخذهن للقداس الأسود. وفي تلك اللحظة قمن جميعاً برشم علامة الصليب، فينسلخ الشيطان من ملابسها، مطلقاً صرخة بشعة، ويغوص في الستائر السوداء، فتصعد الفتيات المغرر بهن ببطء عائدات إلى نعمة الرب. إذن لقد كنت مخطئة إذ ظننت أنّهن لا يجدن اطمئناناً في الدار.
في عدة مناسبات لاحقاً، كنت أقوم بما أستطيعه على ضآلته للالتفاف حول التأخير غير المقبول في سداد معاشات المسنين الذين تم الاعتراف بحقهم في الحصول عليها. وفي أغلب الأحيان كانت تمر شهور بل حتى سنوات قبل أن يتم سداد أي شيء منها. وعليه لابد أن تثمر زيارتي عن أثر مختلف ودائم، عندما ذهبت إلى مكتب مسينا للتأمين الاجتماعي، أخذت معي ثلاثًا من أجمل الشابات الأجنبيات. يتبعن الآنسة فيلبس، وكن يضفين الإثارة بينما كنَّ يعبرن من خلال المكاتب الخارجية حتى المكتب الرئيسي.
بدون مساعدتهن كنت سأجد نفسي عالقة مع أحد الموظفين الصغار. ويلي لم تجد الحيلة إلا قليلاً: فقد توفي المستفيد من راتب التقاعد وهو يعاني الفقر والإهمال وآلت المستحقات إلى أقارب لا يهتمون لأمره.
قمت في أحد الأيام بمهاتفة أحد مكاتب البريد المحلية للسؤال عما إذا كان الراتب التقاعدي الخاص بإحدى صديقاتي السبعينيات- والتي أقل ما يقال عن دماغها أنّه صوّفي- قد وصل أم لا. وربما كان الأمر أكثر سهولة إن وافقت على توقيع ورقة لتفويض وكيل يتسلم عنها الراتبين، واحد يتعلق بوالدها المتوفي في غارة جوية في روما قبل أكثر من أربعين عاماً والثاني بها شخصياً.
ولكنها تمسكت بشدة بحقها بتسلم المال شخصياً. وبما أنّها كانت عاجزة عن السير كل تلك المسافة. كنت أقلها بسيارتي إلى أقرب نقطة رَكْن، والتي نادراً ما تكون قريبة جداً. أرادت السيدة المسنّة من موظف البريد نفسه أن ينقدها كل عشرة آلاف ليرة في يدها. وفي المرة الأولى التي ذهبنا فيها كنت قد تحققت من وصول التفويض بالدفع، ولكني لم أفكر في السؤال عما إذا كان هنالك مال لتنفيذ الدفع. ولم يكن لديهم المال.
كان المستفيدون من رواتب التعاقد ينتظرون في قاعة باردة ليس فيها مقاعد كثيرة. وكان لسان الحال أنْ "صبراً، صبراً".
لكن كانت السيدة العجوز التي تعيّن عليها السير ببطء من أقصى أطراف المدينة إلى الطرف المقابل، تتبعها جميع قططها الخمسة، لم تستطع صبراً. بينما كنت أطلب رؤية المدير، قامت بصب لعناتها على جمع السلطات سواءً أكانت ذات صلة أم لا.
ويقال إنَّ المدير كان خارجاً لجلب المال من أحد المصارف في منتصف الطريق الرئيسي. ويرجح أنّه توقف لاحتساء بعض القهوة في طريق عودته. فيم العجلة؟
في تلك الأثناء كانت صاحبة القطة تصرخ بأعلى صوتها: "لا بدّ أن ديوث المطران هو من هرب به! عليه اللعنة! أو العمدة؟ إنّه يعلم أنني منحت عدوه صوتي في الانتخابات. وعندما كان علي الدخول إلى المشفى بسبب ساقيْ، رأى ذلك الطبيب قطع العصب حتى لا أستطيع المشي بصورة صحيحة مرة أخرى، عليه اللعنة!" حاول الناس تهدئتها أو على الأقل حملها على التقليل من صرخاتها.
خرج مدير القسم من مكتب خفيّ. صرخ قائلاً:" اخرجي وخذي معك تلك القطط!"
" ماذا، أطفالي؟ إنهم يتبعونني إلى كل مكان. إنّهم يعلمون أنني أحتاج المال لشراء الأسماك لهم. لديهم الحق في التواجد هنا بينما ننتظر ذلك المدير الأبله. ولن أتزحزح حتى أخذه."
أخيراً وصل المدير، بعكسنا، كان نشيطاً وتبدو عليه سيماء الراحة، ليجد الحشد الغاضب متعطشاً لسفح دمه. تم دفع النقود وتوقيع الإيصالات، في خربشات غير مقروءة في الغالب، ويمكنهم الآن البدء في رحلات العودة إلى ديارهم. دعوت صاحبة القطط إلى سيارتي: " لتحافظي على ساقيك الضعيفتين."
" وأطفالي؟"
"يمكنك إحضارهم أيضاً، هنالك متسع لكم جميعاً في الخلف." كانت القطط رقيقة، نظيفة، وجيدة التغذية. واشكّ أنّها تقدم لهن طعاماً أفضل مما تأكل. لقد ترددت قليلاً ثم قبلت على مضض. لقد مددت ذراعي لمساعدة كلٍ من المرأتين المسنتين، وسرنا الهوينى ثلاثتنا، تتبعنا القطط الخمسة، في طريقنا إلى السيارة. وقد لفت انتباهي أنّ أحد الإطارات كان مفرغاً عن آخره، والسيارة لا تتحرك. ولم تنتظر السيدة، مؤكدة عدم ثقتها في جميع العربات المدولبة. هدّأت من روع سيدتي، وجعلتها تجلس في المقعد الأمامي ريثما يتم تغيير الإطار. بعد ثلاثة أرباع الساعة مررنا بالسيارة وأتباعها. بساقيها "عديمتي الأعصاب" وقد وصلت إلى منتصف مسافة رحلتها الشهرية. ولكنها مثل السنيورة ترغب في استلام أموالها بنفسها. هل يدل هذا على ذاك الشيء من القوة الذي ما زالت كلاهما تتمتع به، كما يفعلن بإصرارهن على التمسك بمفاتيحهن القديمة والتي أصبحت غير ذات جدوى؟
لاحقاً، بذلت جهداً غير مباشر في الانخراط مرة أخرى في العمل الاجتماعي. في أقصى الشمال الغربي من صقلية، وتماماً في قلب منطقة المافيا، كان دانيلو دولسي، الذي يعرف أيضاً باسم "غاندي صقلية"، والذي كان معمارياً، وشاعراً، ومصلحاً اجتماعياً ومحارباً صلباً ضد الظلم، قد بدأ عمله. وكما قال، " لم يكن له سوى الجوع ليشهره في وجه الجوع"، وبدأ الصيام حتى الموت إن دعت الضرورة. كما أنّه قام أيضاً بتنظيم إضرابات عكسية، موعزاً إلى العاطلين من الرجال بأنّ بإمكانهم القيام بعمل مفيد أثناء بطالتهم. وبدأ معهم بناء طريق غاية في الأهمية. لتجنب احتمال العنف، أقنعهم بترك المُدى التي كانوا يستخدمونها لتقطيع خبزهم في المنزل. وعندما أمرتهم الشرطة بالتوقف، جعلهم يستلقون على الطريق جميعاً، بدون أن يقدموا على أية مقاومة أخرى. تم اعتقال دانيلو الذي كان آخرهم استسلاماً، وقد متعه الله ببسطة في الجسم. وجهت إليه تهم قطع الطريق، وأودع السجن لعدة أسابيع. واستطاع في محاكمته أن يدين الكثير من أنواع الظلم في منطقته. كما اكتسب اهتماماً كبيراً من خلال كتبه الرائعة، لقد كان يفتح نوافذ صقلية على الخارج، ونوافذ الخارج على صقلية. وقد عقدت اللجان في شتى دول العالم لجمع المال وتشجيع المتطوعين. لسوء الحظ لم يُحسن اختيار الآخرين، أو تدريبهم بما يتناسب مع صعوبة هذا العمل الرائد، في هذا الإقليم المتخلف. وقد كنت أبعد من أن أستطيع القيام بدور فعال بنفسي، بالإضافة إلى الانشغال. حاولت إقناع دانيلو باستخدام قصر كوسيني كاستراحة للناس قبل وليس بعد الانهيار. فجاء ليقابلني ويرى المنزل، ولكنه لم يدرك أنّ المقصودين هم مساعدوه المخلصين للقضية، المرهقين من كثرة العمل. على أية حال استفاد الكثير منهم في المنطقة ذاتها بالإضافة إلى ضحايا الهزة الأرضية من الإقامة الهادئة في قصر كوسيني، وهو الأمر الذي ساعدهم على العودة إلى أنماط حيواتهم القاسية.
, Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,
Related Articles