خرجت من حلب مخلفاً سيف الدولة وراء ظهري وهو أحب الناس إلى قلبي، ولقد حذرته مغبة هجرتي عنه فلم يسمع. وقفت منشداً إياه:
لَئِن تَرَكنَ ضُمَيراً عَن مَيامِنِنا لَيَحدُثَنَّ لِمَن وَدَّعتُهُم نَدَمُ
إِذا تَرَحَّلتَ عَن قَومٍ وَقَد قَدَروا أَن لا تُفارِقَهُم فَالراحِلونَ هُمُ
ولقد بَرَرتُ ففارقت حلبَ واقتحمت بادية الشام ميمماً مصر، مخلفاً سيف الدولة ورائي، وضميراً على يميني. وأنا كالنسر في مفازاتٍ تكذبُ فيها العين الأذن، ثم هاتفني الأسود، فلبيت وفي النفس أشياء، فقصدته مؤملاً عمار الأيام عنده. ولما بدا لي كذبه وقفت منشداً إياه:
إِذا لَم تَنُط بي ضَيعَةً أَو وِلايَةً فَجودُكَ يَكسوني وَشُغلُكَ يَسلُبُ
أَبا المِسكِ هَل في الكَأسِ فَضلٌ أَنالُهُ فَإِنّي أُغَنّي مُنذُ حينٍ وَتَشرَبُ
لكن الأسود أبى واستكبر وبث عيونه تترصدني وتعد أنفاسي، فخرجت في ليلة عيدٍ ليس بعيد مودعاً إياه قصيدة لن يعرفه الناس إلا بها، وحال خروجي من الفسطاط أصبحت الصحراء نفوذي فاستقبلتني قبائل العرب استقبال الأمراء فأضافوني وأكرموني إلى أن بلغت الكوفة. ثم قصدت بغداد، لعل المهلبيّ يكون سلماً لمعز الدولة ، ولكن بغداد سوق كسد بها الشعر، فنبذتهما إلى عضد الدولة فأدناني وقربني، وأنا أعلم العداوة بينه وبين عمه، فوقفت منشداً إياه:
يُشَرِّدُ يُمنُ فَنّاخُسرَ عَنّي قَنا الأَعداءِ وَالطَعنِ الدِراكا
وَأَلبَسُ مِن رِضاهُ في طَريقي سِلاحاً يَذعَرُ الأَبطالَ شاكا
وعلمت بأنه يطمع في بغداد، وشعرت لوهلة بأنني سفيره في الكوفة وشاعره بشيراز، ثم جاءني نبأ بني أسد، قطاع الطريق وعملاء معزّ الدولة وابنه بختيار، ولكن نفسي مزمعة على أمر تناله أو تموت دونه:
فأنا شئتي يا طرقي فكوني أداة أو نجاة أو هلاكا
———-
هذا النص من #يوميات_دير_العاقول بقلم #محمد_أحمد_السويدي
#تطبيق_الوراق